الأربعاء، 9 يناير 2013

تفسير سورة العنكبوت في ظلال القرآن سيد قطب

سورة العنكبوت

مقدمة

سورة العنكبوت سورة العنكبوت مكية . وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية . وذلك لذكر"الجهاد" فيها وذكر " المنافقين " . . ولكننا نرجح أن السورة كلها مكية . وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص كما سيجيء . وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال . وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية . لذلك نرجح مكية الآيات كلها . أما تفسير ذكر الجهاد فيها فيسير . لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة . أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن . وهذا واضح في السياق . وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس .

والسورة كلها متماسكة في خط واحد منذ البدء إلى الختام .

إنها تبدأ بعد الحروف المقطعة بالحديث عن الإيمان والفتنة , وعن تكاليف الإيمان الحقة التي تكشف عن معدنه في النفوس . فليس الإيمان كلمة تقال باللسان , إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق هذه الكلمة المحفوفة بالمكاره والتكاليف .

ويكاد هذا أن يكون محور السورة وموضوعها ; فإن سياقها يمضي بعد ذلك المطلع يستعرض قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب , وقصص عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان , استعراضا سريعا يصور ألوانا من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان . على امتداد الأجيال .

ثم يعقب على هذا القصص وما تكشف فيه من قوى مرصودة في وجه الحق والهدى , بالتصغير من قيمة هذه القوى والتهوين من شأنها , وقد أخذها الله جميعا:

(فكلا أخذنا بذنبه , فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا , ومنهم من أخذته الصيحة , ومنهم من خسفنا به الأرض , ومنهم من أغرقنا). .

ويضرب لهذه القوى كلها مثلا مصورا يجسم وهنها وتفاهتها:

(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).

ويربط بعد ذلك بين الحق الذي في تلك الدعوات والحق الذي في خلق السماوات والأرض ; ثم يوحد بين تلك الدعوات جميعا ودعوة محمد [ ص ] فكلها من عند الله . وكلها دعوة واحدة إلى الله . ومن ثم يمضي في الحديث عن الكتاب الأخير وعن استقبال المشركين له ; وهم يطلبون الخوارق غير مكتفين بهذا الكتاب وما فيه من رحمة وذكرى لقوم يؤمنون . ويستعجلون بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .

ويتناقضون في منطقهم:

(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله !). .

(ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن الله !). .

(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين). .

ولكنهم مع هذا كله يشركون بالله ويفتنون المؤمنين .

وفي ثنايا هذا الجدل يدعو المؤمنين إلى الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة , غير خائفين من الموت , إذ (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا يرجعون). غير خائفين من فوات الرزق: وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم . .

ويختم السورة بتمجيد المجاهدين في الله وطمأنتهم على الهدى وتثبيتهم:(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا , وإن الله لمع المحسنين). . فيلتئم الختام مع المطلع وتتضح حكمة السياق في السورة , وتماسك حلقاتها بين المطلع والختام , حول محورها الأول وموضوعها الأصيل .

ويمضي سياق السورة حول ذلك المحور الواحد في ثلاثة أشواط:

الشوط الأول يتناول حقيقة الإيمان , وسنة الابتلاء والفتنة , ومصير المؤمنين والمنافقين والكافرين . ثم فردية التبعة فلا يحمل أحد عن أحد شيئا يوم القيامة:

(وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون). .

والشوط الثاني يتناول القصص الذي أشرنا إليه , وما يصوره من فتن وعقبات في طريق الدعوات والدعاة , والتهوين من شأنها في النهاية حين تقاس إلى قوة الله . ويتحدث عن الحق الكامن في دعوة الرسل , وهو ذاته الحق الكامن في خلق السماوات والأرض . وكله من عند الله .

والشوط الثالث يتناول النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى . إلا الذين ظلموا منهم . وعن وحدة الدين كله , واتحاده مع هذا الدين الأخير الذي يجحد به الكافرون , ويجادل فيه المشركون . ويختم بالتثبيت والبشرى والطمأنينة للمجاهدين في الله المهديين إلى سبل الله: (وإن الله لمع المحسنين). .

ويتخلل السورة من المطلع إلى الختام إيقاعات قوية عميقة حول معنى الإيمان وحقيقته . تهز الوجدان هزا . وتقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة جد صارم ; فإما النهوض بها وإما النكوص عنها . وإلا فهو النفاق الذي يفضحه الله .

وهي إيقاعات لا سبيل إلى تصويرها بغير النصوص القرآنية التي وردت فيها . فنكتفي بالإشارة إليها هنا حتى نستعرضها في موضعها مع السياق .

الدرس الأول 1 سنة الفتنة والإبتلاء ونتائجها

ألف . لام . ميم . .

الحروف المقطعة التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أنها مادة الكتاب الذي أنزله الله على رسوله [ ص ] مؤلفا من مثل هذه الحروف , المألوفة للقوم , الميسرة لهم ليؤلفوا منها ما يشاؤون من القول ; ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها مثل هذا الكتاب ; لأنه من صنع الله لا من صنع إنسان .

وقد قلنا من قبل:إن السور التي صدرت بهذه الحروف تتضمن حديثا عن القرآن , إما مباشرة بعد هذه الحروف , وإما في ثنايا السورة , كما هو الحال في هذه السورة . فقد ورد فيها: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب). . (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب). . (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك). . (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم). . مما يتمشى مع القاعدة التي اخترناها لتفسير هذه الأحرف في افتتاح السور .

وبعد هذا الافتتاح يبدأ الحديث عن الإيمان , والفتنة التي يتعرض لها المؤمنون لتحقيق هذا الإيمان ; وكشف الصادقين والكاذبين بالفتنة والابتلاء:

(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا:آمنا وهم لا يفتنون ? ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).

إنه الإيقاع الأول في هذا المقطع القوي من السورة . يساق في صورة استفهام استنكاري لمفهوم الناس للإيمان , وحسبانهم أنه كلمة تقال باللسان .

(أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا:آمنا وهم لا يفتنون ?). .

إن الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ; وأمانة ذات أعباء ; وجهاد يحتاج إلى صبر , وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس:آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى , حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم . كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به - وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه - وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب .

هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت , وسنة جارية , في ميزان الله سبحانه:

(ولقد فتنا الذين من قبلهم , فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). .

والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ; ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله , مغيب عن علم البشر ; فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم . وهو فضل من الله من جانب , وعدل من جانب , وتربية للناس من جانب , فلا يأخذوا أحدا إلا بما استعلن من أمره , وبما حققه فعله . فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه ! .

ونعود إلى سنة الله في ابتلاء الذين يؤمنون وتعريضهم للفتنة حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين .

إن الإيمان أمانة الله في الأرض , لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة , وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص . وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة , وعلى الأمن والسلامة , وعلى المتاع والإغراء . وإنها لأمانة الخلافة في الأرض , وقيادة الناس إلى طريق الله , وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة ; وهي أمانة ثقيلة ; وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ; ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء .

ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ; ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه , ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ; ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان . وهذه هي الصورة البارزة للفتنة , المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة . ولكنها ليست أعنف صور الفتنة . فهناك فتن كثيرة في صور شتى , ربما كانت أمر وأدهى .

هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه , وهو لا يملك عنهم دفعا . وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ; وينادونه باسم الحب والقرابة , واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك . وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين وهو شاق عسير .

وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين , ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين , تهتف لهم الدنيا , وتصفق لهم الجماهير , وتتحطم في طريقهم العوائق , وتصاغ لهم الأمجاد , وتصفو لهم الحياة . وهو مهمل منكر لا يحس به أحد , ولا يحامي عنه أحد , ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا .

وهنالك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة , حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة ; وهو وحده موحش غريب طريد .

وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام . فتنة أن يجد المؤمن أمما ودولا غارقة في الرذيلة , وهي مع ذلك راقية في مجتمعها , متحضرة في حياتها , يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان . ويجدها غنية قوية , وهي مشاقة لله !

وهنالك الفتنة الكبرى . أكبر من هذا كله وأعنف . فتنة النفس والشهوة . وجاذبية الأرض , وثقلة اللحم والدم , والرغبة في المتاع والسلطان , أو في الدعة والاطمئنان . وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه , مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس , وفي ملابسات الحياة , وفي منطق البيئة , وفي تصورات أهل الزمان !

فإذا طال الأمد , وأبطأ نصر الله , كانت الفتنة أشد وأقسى . وكان الابتلاء أشد وأعنف . ولم يثبت إلا من عصم الله . وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان , ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى , أمانة السماء في الأرض , وأمانة الله في ضمير الإنسان .

وما بالله - حاشا لله - أن يعذب المؤمنين بالابتلاء , وأن يؤذيهم بالفتنة . ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة . فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ; وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات , وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام , وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو في ثوابه , وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء .

والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث ; وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع . وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويصقل . وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات , فلا يبقى صامدا إلا أصلبها عودا ; وأقواها طبيعة , وأشدها اتصالا بالله , وثقة فيما عنده من الحسنيين:النصر أو الأجر , وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية . مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار .

وإنهم ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن ; وبما بذلوا لها من الصبر على المحن ; وبما ذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات . والذي يبذل من دمه وأعصابه , ومن راحته واطمئنانه , ومن رغائبه ولذاته . ثم يصبر على الأذى والحرمان ; يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل ; فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام .

فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله . وما يشك مؤمن في وعد الله . فإن أبطأ فلحكمة مقدرة , فيها الخير للإيمان وأهله . وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة , ويقع عليهم البلاء , أن يكونوا هم المختارين من الله , ليكونوا أمناء على حق الله . وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء:

جاء في الصحيح:" أشد الناس بلاء الأنبياء , ثم الصالحون , ثم الأمثل فالأمثل , يبتلى الرجل على حسب دينه , فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء " . .

وأما الذين يفتنون المؤمنين , ويعملون السيئات , فما هم بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين . مهما انتفخ باطلهم وانتفش , وبدا عليه الانتصار والفلاح . وعد الله كذلك وسنته في نهاية المطاف:

(أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ? ساء ما يحكمون !). .

فلا يحسبن مفسد أنه مفلت ولا سابق , ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه , وفسد تقديره , واختل تصوره . فإن الله الذي جعل الابتلاء سنة ليمتحن إيمان المؤمن ويميز بين الصادقين والكاذبين ; هو الذي جعل أخذ المسيئين سنة لا تتبدل ولا تتخلف ولا تحيد .

وهذا هو الإيقاع الثاني في مطلع السورة , الذي يوازن الإيقاع الأول ويعادله . فإذا كانت الفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف , فخيبة المسيئين وأخذ المفسدين سنة جارية لا بد أن تجيء .

أما الإيقاع الثالث فيتمثل في تطمين الذين يرجون لقاء الله , ووصل قلوبهم به في ثقة وفي يقين:

(من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت , وهو السميع العليم). .

فلتقر القلوب الراجية في لقاء الله ولتطمئن ; ولتنتظر ما وعدها الله إياه , انتظار الواثق المستيقن ; ولتتطلع إلى يوم اللقاء في شوق ولكن في يقين .

والتعبير يصور هذه القلوب المتطلعة إلى لقاء الله صورة موحية . صورة الراجي المشتاق , الموصول بما هناك . ويجيب على التطلع بالتوكيد المريح . ويعقب عليه بالطمأنينة الندية , يدخلها في تلك القلوب . فإن الله يسمع لها , ويعلم تطلعها: (وهو السميع العليم).

والإيقاع الرابع يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان , ومشاق الجهاد , بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها , ولإصلاح أمرها وحياتها ; وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد , وإنه لغنى عن كل أحد:

(ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه , إن الله لغني عن العالمين). .

فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق , فإنما ذلك لإصلاحهم , وتكميلهم , وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة . والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه ; ويرفع من تصوراته وآفاقه ; ويستعلي به على الشح بالنفس والمال , ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات . وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة , وما يعود عليها من صلاح حالها , واستقرار الحق بينها , وغلبة الخير فيها على الشر , والصلاح فيها على الفساد .

(ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه).

فلا يقفن أحد في وسط الطريق , وقد مضى في الجهاد شوطا ; يطلب من الله ثمن جهاده ; ويمن عليه وعلى دعوته , ويستبطئ المكافأة على ما ناله ! فإن الله لا يناله من جهاده شيء . وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل: (إن الله لغني عن العالمين). وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده , وأن يستخلفه في الأرض به , وأن يأجره في الآخرة بثوابه:

(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم , ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون).

فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله , من تكفير للسيئات , وجزاء على الحسنات . وليصبروا على تكاليف الجهاد ; وليثبتوا على الفتنة والابتلاء ; فالأمل المشرق والجزاء الطيب , ينتظرانهم في نهاية المطاف . وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف .

الدرس الثاني:8 - 9 الإبتلاء بالوالدين والإحسان إليهما

ثم يجيء إلى لون من ألوان الفتنة أشرنا إليه في مطلع السورة:فتنة الأهل والأحباء . فيفصل في الموقف الدقيق بالقول الحازم الوسط , لا إفراط فيه ولا تفريط:

(ووصينا الإنسان بوالديه حسنا . وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما , إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين). .

إن الوالدين لأقرب الأقرباء . وإن لهما لفضلا , وإن لهما لرحما ; وإن لهما لواجبا مفروضا:واجب الحب والكرامة والإحترام والكفالة . ولكن ليس لهما من طاعة في حق الله . وهذا هو الصراط: (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا . وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما). .

إن الصلة في الله هي الصلة الأولى , والرابطة في الله هي العروة الوثقى . فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان والرعاية , لا الطاعة ولا الاتباع . وإن هي إلا الحياة الدنيا ثم يعود الجميع إلى الله .

(إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون). .

ويفصل ما بين المؤمنين والمشركين . فإذا المؤمنون أهل ورفاق , ولو لم يعقد بينهم نسب ولا صهر:

(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين). .

وهكذا يعود الموصولون بالله جماعة واحدة , كما هم في الحقيقة ; وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر , وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا , فهي روابط عارضة لا أصيلة , لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها .

روى الترمذي عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وأمه حمنة بنت أبي سفيان , وكان بارا بأمه . فقالت له:ما هذا الدين الذي أحدثت ? والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت , فتتعير بذلك أبد الدهر , يقال:يا قاتل أمه . ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب , فجاء سعد إليها وقال:يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني , فكلي إن شئت , وإن شئت فلا تأكلي . فلما أيست منه أكلت وشربت . فأنزل الله هذه الآية آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما , وعدم طاعتهما في الشرك .

وهكذا انتصر الإيمان على فتنة القرابة والرحم ; واستبقي الإحسان والبر . وإن المؤمن لعرضة لمثل هذه الفتنة في كل آن ; فليكن بيان الله وفعل سعد هما راية النجاة والأمان .

الدرس الثالث:10 - 11 موقف بعض الناس من الفتنة وغروره بالرخاء

ثم يرسم صورة كاملة لنموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء , ثم الادعاء العريض عند الرخاء . يرسمها في كلمات معدودات , صورة واضحة الملامح بارزة السمات:

(ومن الناس من يقول:آمنا بالله . فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن:إنا كنا معكم . أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ? وليعلمن الله الذين آمنوا , وليعلمن المنافقين). .

ذلك النموذج من الناس , يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة الحمل , هينة المؤونة , لا تكلف إلا نطقها باللسان ,(فإذا أوذي في الله)بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى(جعل فتنة الناس كعذاب الله)فاستقبلها في جزع , واختلت في نفسه القيم , واهتزت في ضميره العقيدة ; وتصور أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه , حتى عذاب الله ; وقال في نفسه:ها هو ذا عذاب شديد أليم ليس وراءه شيء , فعلام أصبر على الإيمان , وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من عذاب ? وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر , وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه .
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدة .

(ولئن جاء نصر من ربك ليقولن:إنا كنا معكم)!

إنا كنا معكم . . وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي , وسوء التصوير وخطأ التقدير . ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة , وينتفش المنزوون المتخاذلون , ويستأسد الضعفاء المهزومون , فيقولون: إنا كنا معكم !

(أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ?). .

أو ليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع , ومن إيمان أو نفاق ? فمن الذي يخدعه هؤلاء وعلى من يموهون ?

(وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين). .

وليكشفنهم فيعرفون ; فما كانت الفتنة إلا ليتبين الذين آمنوا ويتبين المنافقون .

ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول: (جعل فتنة الناس كعذاب الله). .

فليست الغلطة أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب , فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات - وللطاقة البشرية حدود - ولكنهم يظلون يفرقون تفرقة واضحة في تصورهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل , وبين عذاب الله العظيم ; فلا يختلط في حسهم أبدا عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير , حتى في اللحظة التي يتجاوز عذاب الناس لهم مدي الطاقة وجهد الاحتمال . . . إن الله في حس المؤمن لا يقوم له شيء , مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله . . وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق .

الدرس الرابع:12 - 13 فردية التبعة يوم القيامة

وأخيرا يعرض فتنة الإغواء والإغراء ; ويعرض معها فساد تصور الذين كفروا للتبعة والجزاء ; ويقرر فردية التبعة وشخصية الجزاء وهو المبدأ الإسلامي الكبير , الذي يحقق العدل في أجلى مظاهره , وأفضل أوضاعه:

وقال الذين كفروا للذين آمنوا:اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم . و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء . إنهم لكاذبون . وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم , وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون . .

وقد كان الذين كفروا يقولون هذا تمشيا مع تصورهم القبلي في احتمال العشيرة للديات المشتركة والتبعات المشتركة . يحسبون أنهم قادرون على احتمال جريرة الشرك بالله عن سواهم وإعفائهم منها . ذلك إلى التهكم على قصة الجزاء في الآخرة إطلاقا:

(اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم). .

ومن ثم يرد عليهم الرد الحاسم , فيرد كل إنسان إلى ربه فردا , يؤاخذه بعمله , لا يحمل أحد عنه شيئا:

(وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء). .

ويجبهم بما في قولتهم هذه من كذب وادعاء:

(إنهم لكاذبون). .

ويحملهم وزر ضلالهم وشركهم وافترائهم , ووزر إضلالهم للآخرين . دون أن يعفي هؤلاء من تبعة الضلال:

(وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم . وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون).

ويغلق هذا الباب من أبواب الفتنة ; فيعلم الناس أن الله لا يحاسبهم جماعات . إنما يحاسبهم أفرادا , وأن كل امرىء بما كسب رهين . .

الوحدة الثانية:12 - 45 الموضوع:الفتنة والإبتلاء من خلال القصص القرآني مقدمة الوحدة

انتهى الشوط الأول بالحديث عن سنة الله في ابتلاء الذين يختارون كلمة الإيمان , وفتنتهم حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين . وقد أشار إلى الفتنة بالأذى , والفتنة بالقرابة , والفتنة بالإغواء والإغراء .

وفي هذا الشوط يعرض نماذج من الفتن التي اعترضت دعوة الإيمان في تاريخ البشرية الطويل من لدن نوح عليه السلام . يعرضها ممثلة فيما لقيه الرسل حملة دعوة الله منذ فجر البشرية . مفصلا بعض الشيء في قصة إبراهيم ولوط , مجملا فيما عداها .

وفي هذا القصص تتمثل ألوان من الفتن , ومن الصعاب والعقبات في طريق الدعوة .

ففي قصة نوح - عليه السلام - تتبدى ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة , فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما , ثم لم يؤمن له إلا القليل (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون). .

وفي قصة إبراهيم مع قومه يتبدى سوء الجزاء وطغيان الضلال . فقد حاول هداهم ما استطاع , وجادلهم بالحجة والمنطق: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:اقتلوه أو حرقوه).

وفي قصة لوط يتبدى تبجح الرذيلة واستعلانها , وسفورها بلا حياء ولا تحرج , وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل من الانحراف والشذوذ ; مع الاستهتار بالنذير: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين). .

وفي قصة شعيب مع مدين يتبدى الفساد والتمرد على الحق والعدل , والتكذيب:(فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).

وتذكر الإشارة إلى عاد وثمود بالاعتزاز بالقوة والبطر بالنعمة .

كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان بطغيان المال , واستبداد الحكم , وتمرد النفاق .

ويعقب على هذا القصص بمثل يضربه لهوان القوى المرصودة في طريق دعوة الله , وهي مهما علت واستطالت

(كمثل العنكبوت اتخذت بيتا . وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).

وينتهي هذ الشوط بدعوة الرسول [ ص ] أن يتلو الكتاب , وأن يقيم الصلاة , وأن يدع الأمر بعد ذلك لله (والله يعلم ما تصنعون). .

الدرس الأول 14 - 15 دعوة للنظر في طول المدة التي مكث فيها نوح عليه السلام يدعو فيها قومه

(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما , فأخذهم الطوفان وهم ظالمون . فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين). .

والراجح أن فترة رسالته التي دعا فيها قومه كانت ألف سنة إلا خمسين عاما . وقد سبقتها فترة قبل الرسالة غير محددة , وأعقبتها فترة كذلك بعد النجاة من الطوفان غير محددة . وهو عمر طويل مديد , يبدو لنا الآن غير طبيعي ولا مألوف في أعمار الأفراد . ولكننا نتلقاه من أصدق مصدر في هذا الوجود - وهذا وحده برهان صدقه - فإذا أردنا له تفسيرا فإننا نستطيع أن نقول:

إن عدد البشرية يومذاك كان قليلا ومحدودا , فليس ببعيد أن يعوض الله هذه الأجيال عن كثرة العدد طول العمر , لعمارة الأرض وامتداد الحياة . حتى إذا تكاثر الناس وعمرت الأرض لم يعد هناك داع لطول الأعمار وهذه الظاهرة ملحوظة في أعمار كثير من الأحياء . فكلما قل العدد وقل النسل طالت الأعمار , كما في النسور وبعض الزواحف كالسلحفاة . حتى ليبلغ عمر بعضها مئات الأعوام . بينما الذباب الذي يتوالد بالملايين لا تعيش الواحدة منه أكثر من أسبوعين . والشاعر يعبر عن هذه الظاهرة بقوله:

بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مقلاة نزور

ومن ثم يطول عمر الصقر . وتقل أعمار بغاث الطير . ولله الحكمة البالغة . وكل شيء عنده بمقدار . ولم تثمر ألف سنة - إلا خمسين عاما - غير العدد القليل الذين آمنوا لنوح . وجرف الطوفان الكثرة العظمى وهم ظالمون بكفرهم وجحودهم وإعراضهم عن الدعوة المديدة , ونجا العدد القليل من المؤمنين , وهم أصحاب السفينة . ومضت قصة الطوفان والسفينة (آية للعالمين)تحدثهم عن عاقبة الكفر والظلم على مدار القرون .

الدرس الثاني:15 دعوة لعبادة الله وحده وشكره فالله بيده الرزق وحده

وبعد قصة نوح يطوي السياق القرون حتى يصل إلى الرسالة الكبرى . رسالة إبراهيم:

وإبراهيم إذ قال لقومه:اعبدوا الله واتقوه . ذلكم خير لكم إن كنت تعلمون . إنما تعبدون من دون الله أوثانا , وتخلقون إفكا . إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه , واشكروا له , إليه ترجعون . وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم , وما على الرسول إلا البلاغ المبين . .

لقد دعاهم دعوة بسيطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض ; وهي مرتبة في عرضها ترتيبا دقيقا يحسن أن يتملاه أصحاب الدعوات . .

لقد بدأ ببيان حقيقة الدعوة التي يدعوهم إليها:

(اعبدوا الله واتقوه). .

ثم ثنى بتحبيب هذه الحقيقة إليهم , وما تتضمنه من الخير لهم , لو كانوا يعلمون أين يكون الخير:

(ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). .

وفي هذا التعقيب ما يحفزهم إلى نفي الجهل عنهم , واختيار الخير لأنفسهم . وهو في الوقت ذاته حقيقة عميقة لا مجرد تهييج خطابي !

وفي الخطوة الثالثة بين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه:أولها أنهم يعبدون من دون الله أوثانا - والوثن:التمثال من الخشب - وهي عبادة سخيفة , وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله . .

وثانيها:أنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أودليل , وإنما يخلقون إفكا وينشئون باطلا , يخلقونه خلقا بلا سابقة أو مقدمة , وينشئونه إنشاء من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة . . وثالثها:أن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعا , ولا ترزقهم شيئا:

(إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا). .

وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق . الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم:

(فابتغوا عند الله الرزق). .

والرزق مشغلة النفوس , وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان . و لكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس .

وفي النهاية يهتف بهم إلى واهب الأرزاق المتفضل بالنعم , ليعبدوه ويشكروه:

(واعبدوه واشكروا له). .

وأخيرا يكشف لهم أنه لا مفر من الله , فمن الخير أن يثوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين:

(إليه ترجعون). .

فإن كذبوا - بعد ذلك كله - فما أهون ذلك ! فلن يضر الله شيئا , ولن يخسر رسوله شيئا . فقد كذب الكثيرون من قبل , وما على الرسول إلا واجب التبليغ:

وإن تكذبوا قفد كذب أمم من قبلكم , وما على الرسول إلا البلاغ المبين . .

وهكذا يأخذهم خطوة خطوة , ويدخل إلى قلوبهم من مداخلها , ويوقع على أوتارها في دقة عميقة , وهذه الخطوات تعد نموذجا لطريقة الدعوة جديرا بأن يتملاه أصحاب كل دعوة , لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب .

الدرس الثالث:16 - 23 دعوة الكفار للنظر في التاريخ والكون

وقبل أن يمضي السياق إلى نهاية القصة , يقف وقفة يخاطب بها كل منكر لدعوة الإيمان بالله على الإطلاق ; المكذبين بالرجعة إلى الله والبعث والمآب:

أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده ? إن ذلك على الله يسير . قل:سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق , ثم الله ينشى ء النشأة الآخرة , إن الله على كل شيء قدير , يعذب من يشاء ويرحم من يشاء , وإليه تقلبون . وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء , وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير . والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي , وأولئك لهم عذاب أليم . .

إنه خطاب لكل منكر لله ولقائه . خطاب دليله هذا الكون ; ومجاله السماء والأرض ; على طريقة القرآن في اتخاذ الكون كله معرضا لآيات الإيمان ودلائله ; وصفحة مفتوحة للحواس والقلوب , تبحث فيها عن آيات الله , وترى دلائل وجوده ووحدانيته , وصدق وعده ووعيده . ومشاهد الكون وظواهره حاضرة أبدا لا تغيب عن إنسان . ولكنها تفقد جدتها في نفوس الناس بطول الألفة ; ويضعف إيقاعها على قلوب البشر بطول التكرار .

فيردهم القرآن الكريم إلى تلك الروعة الغامرة , وإلى تلك الآيات الباهرة بتوجيهه الموحي , المحيي للمشاهد والظواهر في القلوب والضمائر , ويثير تطلعهم وانتباههم إلى أسرارها وآثارها . ويجعل منها دلائله وبراهينه التي تراها الأبصار وتتأثر بها المشاعر , ولا يتخذ طرائق الجدل الذهني البارد والقضايا المنطقية التي لا حياة فيها ولاحركة . . تلك التي وفدت على التفكير الإسلامي من خارجه فظلت غريبة عليه , وفي القرآن المثل والمنهج والطريق . .

أو لم يروا كيف يبدى ء الله الخلق ? ثم يعيده . إن ذلك على الله يسير . .

وإنهم ليرون كيف يبدى ء الله الخلق . يرونه في النبتة النامية . وفي البيضة والجنين , وفي كل ما لم يكن ثم يكون ; مما لا تملك قدرة البشر مجتمعين ومنفردين أن يخلقوه أو يدعوا أنهم خالقوه ! وإن سر الحياة وحده لمعجز , كان وما يزال ; معجز في معرفة منشئه وكيف جاء - ودع عنك أن يحاوله أحد أو يدعيه - ولا تفسير له إلا أنه من صنع الله الذي يبدى ء الخلق في كل لحظة تحت أعين الناس وإدراكهم , وهم يرون ولا يملكون الإنكار !

فإذا كانوا يرون إنشاء الخلق بأعينهم ; فالذي أنشأه يعيده:

(إن ذلك على الله يسير). .

وليس في خلق الله شيء عسير عليه تعالى . ولكنه يقيس للبشر بمقاييسهم . فالإعادة أيسر من البدء في تقديرهم . وإلا فالبدء كالإعادة , والإعادة كالبدء بالقياس إلى قدرة الله سبحانه . وإنما هو توجه الإرادة وكلمة:كن فيكون . .

ثم يدعوهم إلى السير في الأرض , وتتبع صنع الله وآياته في الخلق والإنشاء , في الجامد والحي سواء , ليدركوا أن الذي أنشأ يعيد بلا عناء:

(قل:سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ; ثم الله ينشىء النشأة الآخرة . إن الله على كل شيء قدير). .

والسير في الأرض يفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ولم يملها القلب . وهي لفتة عميقة إلى حقيقة دقيقة . وإن الإنسان ليعيش في المكان الذي ألفه فلا يكاد ينتبه إلى شيء من مشاهده أو عجائبه ; حتى إذا سافر وتنقل وساح استيقظ حسه وقلبه إلى كل مشهد , وإلى كل مظهر في الأرض الجديدة , مما كان يمر على مثله أو أروع منه في موطنه دون التفات ولا انتباه . وربما عاد إلى موطنه بحس جديد وروح جديد ليبحث ويتأمل ويعجب بما لم يكن يهتم به قبل سفره وغيبته . وعادت مشاهد موطنه وعجائبها تنطق له بعد ما كان غافلا عن حديثها ; أو كانت لا تفصح له بشى ء ولا تناجيه !

فسبحان منزل هذا القرآن , الخبير بمداخل القلوب وأسرار النفوس .

(قل:سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق). .

إن التعبير هنا بلفظ الماضي (كيف بدأ الخلق)بعد الأمر بالسير في الأرض لينظروا كيف بدأ الخلق . يثير في النفس خاطرا معينا . . ترى هنالك في الأرض ما يدل على نشأة الحياة الأولى , وكيفية بدء الخليقة فيها . كالحفريات التي يتتبعها بعض العلماء اليوم ليعرفوا منها خط الحياة ; كيف نشأت ? وكيف انتشرت ? وكيف ارتقت ? - وإن كانوا لم يصلوا إلى شيء في معرفة سر الحياة:ما هي ? , ومن أين جاءت إلى الأرض ? وكيف وجد فيها أول كائن حي ? - ويكون ذلك توجيها من الله للبحث عن نشأة الحياة الأولى والاستدلال به عند معرفتها على النشأة الآخرة . .

ويقوم بجانب هذا الخاطر خاطر آخر . ذلك أن المخاطبين بهذه الآية أول مرة لم يكونوا مؤهلين لمثل هذا البحث العلمي الذي نشأ حديثا ; فلم يكونوا بمستطيعين يومئذ أن يصلوا من ورائه إلى الحقيقة المقصودة به - لو كان ذلك هو المقصود - فلا بد أن القرآن كان يطلب منهم أمرا آخر داخلا في مقدورهم , يحصلون منه على ما ييسر لهم تصور النشأة الآخرة . ويكون المطلوب حينئذ أن ينظروا كيف تبدأ الحياة في النبات والحيوان والإنسان في كل مكان . ويكون السير في الأرض كما أسلفنا لتنبيه الحواس والمشاعر برؤية المشاهد الجديدة , ودعوتها إلى التأمل والتدبر في آثار قدرة الله على إنشاء الحياة التي تبرز في كل لحظة من لحظات الليل والنهار .

وهناك احتمال أهم يتمشى مع طبيعة هذ القرآن ; وهو أنه يوجه توجيهاته التي تناسب حياة الناس في أجيالهم جميعا , ومستواياتهم جميعا , وملابسات حياتهم جميعا , ووسائلهم جميعا . ليأخذ كل منها بما تؤهله له ظروف حياته ومقدراته . ويبقى فيها امتداد يصلح لقيادة الحياة ونموها أبدا . ومن ثم لا يكون هناك تعارض بين الخاطرين .

هذا أقرب وأولى .

(إن الله على كل شيء قدير). .

يبدأ الحياة ويعيدها بهذه القدرة المطلقة التي لا تتقيد بتصورات البشر القاصرة , وما يحسبونه قوانين يقيسون عليها الممكن وغير الممكن , بما يعرفونه من تجاربهم المحدودة !

ومن قدرة الله على كل شيء:تعذيبه لمن يشاء ورحمته لمن يشاء , وإليه وحده المآب ; لا يعجزه أحد , ولا يمتنع عليه أحد:

(يعذب من يشاء ويرحم من يشاء , وإليه تقلبون . وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء . وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير). .

والعذاب والرحمة يتبعان مشيئة الله ; من حيث أنه بين طريق الهدى وطريق الضلال ; وخلق للإنسان من الاستعداد ما يختار به هذا أو ذاك , ويسر له الطريقين سواء , وهو بعد ذلك , وما يختار غير أن اتجاهه إلى الله ورغبته في هداه , ينتهيان به إلى عون الله له - كما كتب على نفسه - وإعراضه عن دلائل الهدى وصده عنها يؤديان به إلى الإنقطاع والضلال . ومن ثم تكون الرحمة ويكون العذاب .

(وإليه تقلبون). .

تعبير عن المآب فيه عنف , يناسب المعنى بعده:

(وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء). .

فليس لكم من قوة في هذا الوجود تمتنعون بها من الانقلاب إلى الله . لا من قوتكم في الأرض , ولا من قوة ما تعبدونه أحيانا من الملائكة والجن وتحسبون له قوة في السماء .

(وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير). .

وأين من دون الله الولي والنصير ? أين الولي والنصير من الناس ? أو من الملائكة والجن ? وكلهم عباد من خلق الله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فوق أن يملكوا لسواهم شيئا ?

(والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم). .

ذلك أنه لا ييأس الإنسان من رحمة الله إلا حين يكفر قلبه , وينقطع ما بينه وبين ربه . وكذلك هو لا يكفر إلا وقد يئس من اتصال قلبه بالله , وجفت نداوته , ولم يعد له إلى رحمة الله سبيل . والعاقبة معروفة: (وأولئك لهم عذاب أليم). .

الدرس الرابع 24 - 27 عناد الكفار لدرجة قتل أنبيائهم وطلبهم حرق إبراهيم

وبعد هذا الخطاب المعترض في ثنايا القصة , الذي جاء خطابا لكل منكر لدعوة الإيمان ولقوم إبراهيم ضمنا . . بعد هذا الخطاب يعود لبيان جواب قوم إبراهيم , فيبدو هذا الجواب غربيا عجيبا , ويكشف عن تبجح الكفر والطغيان , بما يملك من قوة ومن سلطان:

(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:اقتلوه أو حرقوه . فأنجاه الله من النار . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون). .

اقتلوه أو حرقوه . . ردا على تلك الدعوة الواضحة البسيطة المرتبة التي خاطب بها قلوبهم وعقولهم على النحو الذي بينا قيمته في عرض الدعوات .

وإذ أن الطغيان أسفر عن وجهه الكالح ; ولم يكن إبراهيم - عليه السلام - يملك له دفعا , ولا يستطيع منه وقاية . وهو فرد أعزل لا حول له ولا طول . فهنا تتدخل القدرة سافرة كذلك . تتدخل بالمعجزة الخارقة لمألوف البشر:

(فأنجاه الله من النار). .

وكان في نجاته من النار على النحو الخارق الذي تمت به آية لمن تهيأ قلبه للإيمان . ولكن القوم لم يؤمنوا على الرغم من هذه الآية الخارقة , فدل هذا على أن الخوارق لا تهدي القلوب , إنما هوالاستعداد للهدى والإيمان:

إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون . .

الآية الأولى هي تلك النجاة من النار . والآية الثانية هي عجز الطغيان عن إيذاء رجل واحد يريد الله له النجاة . والآية الثالثة هي أن الخارقة لا تهدي القلوب الجاحدة ذلك لمن يريد أن يتدبر تاريخ الدعوات , وتصريف القلوب , وعوامل الهدى والضلال .

ويمضي في القصة بعد نجاة إبراهيم من النار . فلقد يئس من إيمان القوم الذين لم تلن قلوبهم للمعجزة الواضحة . فإذا هو يجبههم بحقيقة أمرهم , قبل أن يعتزلهم جميعا:

(وقال:إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا , ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض , ويلعن بعضكم بعضا , ومأواكم النار , وما لكم من ناصرين). .

إنه يقول لهم:إنكم اتخذتم الأوثان من دون الله , لا اعتقادا واقتناعا بأحقية هذه العبادة ; إنما يجامل بعضكم بعضا , ويوافق بعضكم بعضا , على هذه العبادة ; ولا يريد الصاحب أن يترك عبادة صاحبه - حين يظهر الحق له - استبقاء لما بينكم من مودة على حساب الحق والعقيدة ! وإن هذا ليقع في الجماعات التي لا تأخذ العقيدة مأخذ الجد , فيسترضي الصاحب صاحبه على حساب العقيدة ; ويرى أمرها أهون من أن يخالف عليه صديقه ! وهي الجد كل الجد . الجد الذي لا يقبل تهاونا ولا استرخاء ولا استرضاء .

ثم يكشف لهم عن صفحتهم في الآخرة . فإذا المودة التي يخشون أن يمسوها بالخلاف على العقيدة , والتي يبقون على عبادة الأوثان محافظة عليه . . إذا هي يوم القيامة عداء ولعن وانفصام:

(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا). .

يوم يتنكر التابعون للمتبوعين , ويكفر الأولياء بالأولياء , ويتهم كل فريق صاحبه أنه أضله , ويلعن كل غوي صاحبه الذي أغواه !

ثم لا يجدي ذلك الكفر والتلاعن شيئا , ولا يدفع عن أحد عذابا:

(ومأواكم النار وما لكم من ناصرين). .

النار التي أرادوا أن يحرقوه بها , فنصره الله منها ونجاه . فأما هم فلا نصرة لهم ولا نجاة !

وانتهت دعوة إبراهيم لقومه , والمعجزة التي لا شك فيها . انتهت هذه وتلك بإيمان فرد واحد غير امرأته هو لوط . ابن أخيه فيما تذكر بعض الروايات . وهاجر معه من أور الكلدانيين في العراق , إلى ما وراء الأردن حيث استقر بهما المقام:

(فآمن له لوط , وقال:إني مهاجر إلى ربي , إنه هو العزيز الحكيم). .

ونقف أمام قولة لوط: (إني مهاجر إلى ربي). . لنرى فيم هاجر . إنه لم يهاجر للنجاة . ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة . إنما هاجر إلى ربه . هاجر متقربا له ملتجئا إلى حماه . هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه . هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره , بعيدا عن موطن الكفر والضلال . بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال .

وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله - عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته . وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة:

(ووهبنا له إسحاق ويعقوب . وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين).

وهو فيض من العطاء جزيل , يتجلى فيه رضوان الله سبحانه على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته , والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار , فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما , وعطفا وإنعاما . جزاء وفاقا .

الدرس الخامس:28 - 35 لقطات من قصة قوم لوط ودمارهم

ثم تأتي قصة لوط عقب قصة إبراهيم , بعد ما هاجر إلى ربه مع إبراهيم , فنزلا بوادي الأردن ; ثم عاش لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف البحر الميت أو بحيرة لوط كما سميت فيما بعد . وكانت تسكن مدينة سدوم . وصار لوط منهم بالصهر والمعيشة .

ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب , يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية . ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلا من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال , لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء . إذ خلقها الله أزواجا:ذكرانا وإناثا . فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم لوط هؤلاء:

(ولوطا إذ قال لقومه:إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين . أئنكم لتأتون الرجال , وتقطعون السبيل , وتأتون في ناديكم المنكر . فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين . قال:رب انصرني على القوم المفسدين).

ومن خطاب لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه . فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين:

يأتون الرجال . وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها . فالفطرة قد تفسد بتجاوز حد الاعتدال والطهارة مع المرأة , فتكون هذه الجريمة فاحشة , ولكنها داخلة في نطاق الفطرة ومنطقها . فأما ذلك الشذوذ الآخر فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعا . وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء . فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين متناسقة مع خط الحياة الأكبر , وامتداده بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة . وجهز كيان كل من الزوجين بالإستعداد للإلتذاذ بهذه المباشرة , نفسيا وعضويا , وفقا لذلك التناسق , فأما المباشرة الشاذة فلا هدف لها , ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعا لانعدام الهدف منها . فإذا وجد فيها أحد لذة فمعنى هذا أنه انسلخ نهائيا من خط الفطرة , وعاد مسخا لا يرتبط بخط الحياة !

ويقطعون السبيل , فينهبون المال , ويروعون المارة , ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها . وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى , إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض . .

ويأتون في ناديهم المنكر . يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه , لا يخجل بعضهم من بعض . وهي درجة أبعد في الفحش , وفساد الفطرة , والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح !

والقصة هنا مختصرة , وظاهر أن لوطا أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى ; وأنهم أصروا على ما هم فيه , فخوفهم عذاب الله , وجبههم بشناعة جرائمهم الكبرى:

(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا:ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين). .

فهو التبجح في وجه الإنذار , والتحدي المصحوب بالتكذيب , والشرود الذي لا تنتظر منه أوبة . وقد أعذر إليهم رسولهم فلم يبق إلا أن يتوجه إلى ربه طالبا نصره الأخير:

(قال:رب انصرني على القوم المفسدين). .
وهنا يسدل الستار على دعاء لوط , ليرفع عن الاستجابة . و في الطريق يلم الملائكة المكلفون بالتنفيذ بإبراهيم , يبشرونه بولد صالح من زوجه التي كانت من قبل عقيما:

ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا:إنا مهلكو أهل هذه القرية , إن أهلها كانوا ظالمين . قال:إن فيها لوطا . قالوا:نحن أعلم بمن فيها , لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين). .

وهذا المشهد . مشهد الملائكة مع إبراهيم . مختصر في هذا الموضع لأنه ليس مقصودا ; قد سبق في قصة إبراهيم أن الله وهب له إسحاق ويعقوب ; وولادة اسحاق هي موضوع البشرى , ومن ثم لم يفصل قصتها هنا لأن الغرض هو إتمام قصة لوط . فذكر أن مرور الملائكة بإبراهيم كان للبشرى . ثم أخبروه بمهمتهم الأولى: إنا مهلكوا أهل هذه القرية . إن أهلها كانوا ظالمين . .

وأدركت إبراهيم رقته ورأفته , فراح يذكر الملائكة أن في هذه القرية لوطا ; وهو صالح وليس بظالم !

وأجابه الرسل بما يطمئنه من ناحيته , ويكشف له عن معرفتهم بمهمتهم وأنهم أولى بهذه المعرفة !

(قالوا:نحن أعلم بمن فيها ; لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين). .

وقد كان هواها مع القوم , تقر جرائمهم وانحرافهم , وهو أمر عجيب .

وينتقل إلى مشهد ثالث . مشهد لوط وقد جاء إليه الملائكة في هيئة فتية صباح ملاح ; وهو يعلم شنشنة قومه , وما ينتظر ضيوفه هؤلاء منهم من سوء لا يملك له دفعا . فضاق صدره وساءه حضورهم إليه , في هذا الظرف العصيب:

(ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا). .

ويختصر هنا هجوم القوم على الضيوف , ومحاورة لوط لهم , وهم في سعار الشذوذ المريض . . ويمضي إلى النهاية الأخيرة . إذ يكشف له الرسل عن حقيقتهم , ويخبرونه بمهمتهم , وهو في هذا الكرب وذلك الضيق:

(وقالوا:لا تخف ولا تحزن . إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين . إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون). .

وترسم هذه الآية مشهد التدمير الذي أصاب القرية وأهلها جميعا - إلا لوطا وأهله المؤمنين - وقد كان هذا التدمير بأمطار وأحجار ملوثة بالطين . ويغلب أنها ظاهرة بركاينة قلبت المدينة وابتلعتها ; وأمطرت عليها هذا المطر الذي يصاحب البراكين .

وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون:

(ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون). .

وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت , فلم تعد صالحة للإثمار وللحياة . ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطيم .

الدرس السادس:36 - 37 إشارة إلى قصة مدين

ثم إشارة إلى قصة شعيب ومدين:

(وإلى مدين أخاهم شعيبا , فقال:يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر , ولا تعثوا في الأرض مفسدين . فكذبوه فأخذتهم الرجفة , فأصبحوا في دارهم جاثمين). .

وهي إشارة تبين وحدة الدعوة , ولباب العقيدة: (اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر). وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة . ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان , وغصب المارين بطريقهم للتجارة , وبخس الناس أشياءهم , والإفساد في الأرض , والاستطالة على الخلق .

وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم ; وأخذهم بالهلاك والتدمير , على سنة الله في أخذ المكذبين .

(فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين). .

وقد تقدم بيان الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون . فأصبحوا فيها جاثمين . جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين !

الدرس السابع:38 إشارة إلى عاد وثمود

وإشارة كذلك إلى مصرع عاد وثمود:

(وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ; وزين لهم الشيطان أعمالهم , فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين). .

وعاد كانت تسكن بالأحقاف في جنوب الجزيرة بالقرب من حضرموت , وثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة بالقرب من وادي القرى . وقد هلكت عاد بريح صرصر عاتية , وهلكت ثمود بالصيحة المزلزلة . وبقيت مساكنها معروفة للعرب يمرون عليها في رحلتي الشتاء والصيف , ويشهدون آثار التدمير , بعد العز والتمكين .

وهذه الإشارة المجملة تكشف عن سر ضلالهم , وهو سر ضلال الآخرين .

(وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).

فقد كانت لهم عقول , وكانت أمامهم دلائل الهدى ; ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم . وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة , وهي غرورهم بأنفسهم , وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال , وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع . (فصدهم عن السبيل)سبيل الدى الواحد المؤدي إلى الإيمان . وضيع عليهم الفرصة (وكانوا مستبصرين)يملكون التبصر , وفيهم مدارك ولهم عقول .

الدرس الثامن:39 إشارة إلى فرعون وآله

وإشارة إلى قارون وفرعون وهامان .

(ولقد جاءهم موسى بالبينات , فاستكبروا في الأرض , وما كانوا سابقين). .

وقارون كان من قوم موسى فبغى عليهم بثروته وعلمه , ولم يستمع نصح الناصحين بالإحسان والاعتدال والتواضع وعدم البغي والفساد . وفرعون كان طاغية غشوما , يرتكب أبشع الجرائم وأغلظها , ويسخر الناس ويجعلهم شيعا , ويقتل ذكور بني إسرائيل ويستحيي نساءهم عتوا وظلما . وهامان كان وزيره المدبر لمكائده , المعين له على ظلمه وبطشه .

(ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض). .

فلم يعصمهم الثراء والقوة والدهاء . لم تعصمهم من أخذ الله , ولم تجعلهم ناجين ولا مفلتين من عذاب الله , بل أدركهم وأخذهم كما سيجيء .

(وما كانوا سابقين). .

الدرس التاسع:40 مصارع الأقوام السابقين

هؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة , قد أخذهم الله جميعا . بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا:

(فكلا أخذنا بذنبه , فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا , ومنهم من أخذته الصيحة , ومنهم من خسفنا به الأرض , ومنهم من أغرقنا . وما كان الله ليظلمهم , ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

فعاد أخذهم حاصب وهو الريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم , وثمود أخذتهم الصيحة . وقارون خسف به وبداره الأرض , وفرعون وهامان غرقا في اليم . وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم . (وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). .

الدرس العاشر 41 ولاية غير الله والعنكبوت

والآن . وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون . . والآن . وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء . . الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال . . إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله . وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن , من تعلق به أو احتمى , فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية . فهي وما تحتمي به سواء:

مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون . إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهوالعزيز الحكيم . وتلك الأمثال نضربها للناس , وما يعقلها إلا العالمون . .

إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود . الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا , فيسوء تقديرهم لجميع القيم , ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات , وتختل في أيديهم جميع الموازين . ولا يعرفون إلى أين يتوجهون . ماذا يأخذون وماذا يدعون ?

وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض , فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم , ويخشونها ويفزعون منها , ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها , أو يضمنوا لأنفسهم حماها !

وتخدعهم قوة المال , يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة . ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ; ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون !

وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال , وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول , ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب !

وتخدعهم هذه القوى الظاهرة . تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول , فيدورون حولها , ويتهافتون عليها , كما يدور الفراش على المصباح , وكما يتهافت الفراش على النار !

وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة , وتملكها , وتمنحها , وتوجهها , وتسخرها كما تريد , حيثما تريد . وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد , أو الجماعات , أو الدول . . كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت . . . حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو , ولا وقاية لها من بيتها الواهن .

وليس هنالك إلا حماية الله , وإلا حماه , وإلا ركنه القوي الركين .

هذه الحقيقة الضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة , فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها ; وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون .

لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس , وعمرت كل قلب , واختلطت بالدم , وجرت معه في العروق , ولم تعد كملة تقال باللسان , ولا قضية تحتاج إلى جدل . بل بديهة مستقرة في النفس , لا يجول غيرها في حس ولا خيال .

قوة الله وحدها هي القوة . وولاية الله وحدها هي الولاية . وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل ; مهما علا واستطال , ومهما تجبر وطغى , ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل .

إنها العنكبوت:وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).

وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى , وللإغراء والإغواء . لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة , وهم يواجهون القوى المختلفة . هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم . وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم . . وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله , وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة , وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير .

إن الله يعلم ما يدعون من دونه شيء . .

إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء . وهي الحقيقة التي صورت في المثل السابق . . عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت !

(وهو العزيز الحكيم). .

هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبر لهذا الوجود .

وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). .

فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادة للسخرية والتهكم . وقالوا:إن رب محمد يتحدث عن الذباب والعنكبوت . ولم يهز مشاعرهم هذا التصوير العجيب لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون: (وما يعقلها إلا العالمون). .

الدرس الحادي عشر:42 خلق الله الكون بالحق

ثم يربط تلك الحقيقة الضخمة التي قدمها بالحق الكبير في تصميم هذا الكون كله على طريقة القرآن في ربط كل حقيقة بذلك الحق الكبير:

خلق الله السماوات والأرض بالحق . إن في ذلك لآية للمؤمنين). .

وهكذا تجيء هذه الآية عقب قصص الأنبياء , وعقب المثل المصور لحقيقة القوى في الوجود , متناسقة معها مرتبطة بها , بتلك الصلة الملحوظة . صلة الحقائق المتناثرة كلها بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض ; والذي قامت به السماوات والأرض , في ذلك النظام الدقيق الذي لا يتخلف ولا يبطئ ولا يختلف ولا يصدم بعضه بعضا , لأنه حق متناسق لا عوج فيه !

(إن في ذلك لآية للمؤمنين). .

الذين تتفتح قلوبهم لآيات الله الكونية المبثوثة في تضاعيف هذا الكون وحناياه , المشهودة في تنسيقه وتنظيمه , المنثورة في جوانبه حيثما امتدت الأبصار . والمؤمنون هم الذين يدركونها , لأنهم مفتوحو البصائر والمشاعر للتلقي والإدراك .

الدرس الثاني عشر:45 التوجيه إلى الصلاة والقرآن والذكر

وفي نهاية الشوط يربط الكتاب الذي أنزل على محمد [ ص ] ويربط الصلاة وذكر الله , بالحق الذي في السماوات والأرض , وبسلسلة الدعوة إلى الله من لدن نوح عليه السلام:

(اتل ما أوحي إليك من الكتاب , وأقم الصلاة , إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر , ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون). .

اتل ما أوحي إليك من الكتاب فهو وسيلتك للدعوة , والآية الربانية المصاحبة لها , والحق المرتبط بالحق الكامن في خلق السماوات والأرض . وأقم الصلاة إن الصلاة - حين تقام - تنهى عن الفحشاء والمنكر . فهي اتصال بالله يخجل صاحبه ويستحيي أن يصطحب معه كبائر الذنوب وفواحشها ليلقى الله بها , وهي تطهر وتجرد لا يتسق معها دنس الفحشاء والمنكر وثقلتهما . " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا " . وما أقام الصلاة كما هي إنما أداها أداء ولم يقمها . . وفرق كبير بينهما . . فهي حين تقام ذكر لله . (ولذكر الله أكبر). أكبر إطلاقا أكبر من كل اندفاع ومن كل نزوع . وأكبر من كل تعبد وخشوع .

(والله يعلم ما تصنعون). .

فلا يخفى عليه شيء , ولا يلتبس عليه أمر . وأنتم إليه راجعون . فمجازيكم بما تصنعون . .

الوحدة الثالثة:46 - 69 الموضوع:حقائق حول أهل الكتاب والمشركين والإبتلاء والإيمان مقدمة الوحدة

هذا هو الشوط الأخير في سورة العنكبوت . وقد مضى منها شوطان في الجزء العشرين . ومحور السورة - كما أسلفنا - هو الحديث عن الفتنة والابتلاء لمن يقول كلمة الإيمان , لتمحيص القلوب وتمييز الصادقين والمنافقين بمقياس الصبر على الفتنة والابتلاء . . وذلك مع التهوين من شأن القوى الأرضية التي تقف في وجه الإيمان والمؤمنين ; وتفتنهم بالأذى وتصدهم عن السبيل , وتوكيد أخذ الله للمسيئين ونصره للمؤمنين الذين يصبرون على الفتنة , ويثبتون للابتلاء . سنة الله التي مضت في الدعوات من لدن نوح عليه السلام . وهي السنة التي لا تتبدل , والتي ترتبط بالحق الكبير المتلبس بطبيعة هذا الكون , والذي يتمثل كذلك في دعوة الله الواحدة التي لا تتبدل طبيعتها .

وقد انتهى الشوط الثاني في نهاية الجزء السابق بدعوة الرسول [ ص ] والمؤمنين به إلى تلاوة ما أوحي إليه من الكتاب , وإقامة الصلاة لذكر الله , ومراقبة الله العليم بما يصنعون .

وفي الشوط الأخير يستطرد في الحديث عن هذا الكتاب , والعلاقة بينه وبين الكتب قبله . ويأمر المسلمين ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم فبدلوا في كتابهم , وانحرفوا إلى الشرك , والشرك ظلم عظيم - وأن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلها وبالكتب جميعها , فهي حق من عند الله مصدق لما معهم .

ثم يتحدث عن إيمان بعض أهل الكتاب بهذا الكتاب الأخير على حين يكفر به المشركون الذين أنزل الله الكتاب على نبيهم , غير مقدرين لهذه المنة الضخمة , ولا مكتفين بهذا الفضل المتمثل في تنزيل الكتاب على رسول منهم , يخاطبهم به , ويحدثهم بكلام الله . ولم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطه بيمينه , فتكون هناك أدنى شبهة في أنه من عمله ومن تأليفه !

ويحذر المشركين استعجالهم بعذاب الله , ويهددهم بمجيئه بغتة , ويصور لهم قربه منهم , وإحاطة جهنم بهم , وحالهم يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم .

ثم يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقون الفتنة والإيذاء في مكة ; يحضهم على الهجره بدينهم إلى الله ليعبدوه وحده . يلتفت إليهم في أسلوب عجيب , يعالج كل هاجسة تخطر في ضمائرهم , وكل معوق يقعد بهم , ويقلب قلوبهم بين أصابع الرحمن في طسات تشهد بأن منزل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب ; فما يعرف مساربها ومداخلها الخفية , ويلمسها هكذا إلا خالقها اللطيف الخبير .

وينتقل من هذا إلى التعجيب من حال أولئك المشركين , وهم يتخبطون في تصوراتهم فيقرون لله - سبحانه - بخلق السماوات والأرض , وتسخير الشمس والقمر , وتنزيل الماء من السماء , وإحياء الأرض الموات ; وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين . . ثم هم بعد ذلك يشركون بالله , ويكفرون بكتابه , ويؤذون رسوله , ويفتنون المؤمنين به . ويذكر المشركين بنعمة الله عليهم بهذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه ,

والناس من حولهم في خوف وقلق . وهم يفترون على الله الكذب ويشركون به آلهة مفتراة . ويعدهم على هذا جهنم وفيها مثوى للكافرين .

وتختم السورة بوعد من الله أكيد بهداية المجاهدين في الله , يريدون أن يخلصوا إليه , مجتازين العوائق والفتن والمشاق وطول الطريق , وكثرة المعوقين .

الدرس الأول:46 - 52 حقائق حول القرآن ونقض شبهات الكفار حوله

(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا:آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم , وإلهنا وإلهكم واحد , ونحن له مسلمون). .

إن دعوة الله التي حملها نوح - عليه السلام - والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد [ ص ] لهي دعوة واحدة من عند إله واحد , ذات هدف واحد , هو رد البشرية الضالة إلى ربها , وهدايتها إلى طريقه , وتربيتها بمنهاجه . وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات:كلهم أمة واحدة , تعبد إلها واحدا . وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان:صنف المؤمنين وهم حزب الله . وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان , بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان . وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون .

هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام ; والتي تقررها هذه الآية من القرآن ; هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب , أو جنس , أو وطن . أو تبادل أو تجارة . ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله , ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان ; وتختفي فيها القوميات والأوطان ; ويتلاشى فيها الزمان والمكان . ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان .

ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ; لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة , والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة , والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله , الموافقة لما قبلها من الدعوات , المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر . . (إلا الذين ظلموا منهم)فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية ; وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة . فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة . وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة .

وإن بعضهم ليفتري على رسول الله [ ص ] أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين . فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم , مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة ! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه . فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم , ولم ينحرف عن دين الله . وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات .

وقولوا:آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم , و إلهنا وإلهكم واحد , ونحن له مسلمون . .

وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع , والجدل والنقاش . وكلهم يؤمنون بإله واحد , والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم , وهو في صميمه واحد , والمنهج الإلهي متصل الحلقات .

(وكذلك أنزلنا إليك الكتاب . فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به , ومن هؤلاء من يؤمن به , وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون). .

(كذلك). على النهج الواحد المتصل . وعلى السنة الواحدة التي لا تتبدل . وعلى الطريقة التي يوحي بها الله لرسله (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب). . فوقف الناس بإزائه في صفين:صف يؤمن به من أهل الكتاب ومن قريش , وصف يجحده ويكفر به مع إيمان أهل الكتاب وشهادتهم بصدقة , وتصديقه لما بين أيديهم . . (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون). . فهذه الآيات من الوضوح والاستقامة بحيث لا ينكرها إلا الذي يغطي روحه عنا ويسترها , فلا يراها ولا يتملاها ! والكفر هو التغطية والحجاب في أصل معناه اللغوي , وهو ملحوظ في مثل هذا التعبير .

وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك . إذن لارتاب المبطلون . .

وهكذا يتتبع القرآن الكريم مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها . فرسول الله [ ص ] عاش بينهم فترة طويلة من حياته , لا يقرأ ولا يكتب ; ثم جاءهم بهذا الكتاب العجيب الذي يعجز القارئين الكاتبين . ولربما كانت تكون لهم شبهة لو أنه كان من قبل قارئا كاتبا . فما شبهتهم وهذا ماضيه بينهم ?

ونقول:إنه يتتبع مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها . فحتى على فرض أن رسول الله [ ص ] كان قارئا كاتبا , ما جاز لهم أن يرتابوا . فهذا القرآن يشهد بذاته على أنه ليس من صنع البشر . فهو أكبر جدا من طاقة البشر ومعرفة البشر , وآفاق البشر . والحق الذي فيه ذو طبيعة مطلقة كالحق الذي في هذا الكون . وكل وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأن وراءه قوة , وبأن في عباراته سلطانا , لا يصدران عن بشر !

(بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم , وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون). .

فهو دلائل واضحة في صدور الذين وهبهم الله العلم , لا لبس فيها ولا غموض , ولا شبهة فيها ولا ارتياب . دلائل يجدونها بينة في صدورهم , تطمئن إليها قلوبهم , قلا تطلب عليها دليلا وهي الدليل . والعلم الذي يستحق هذا الاسم , هو الذي تجده الصدور في قرارتها , مستقرا فيها , منبعثا منها ; يكشف لها الطريق , ويصلها بالخيط الواصل إلى هناك ! (وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون). . الذين لا يعدلون في تقدير الحقائق وتقويم الأمور , والذين يتجاوزون الحق والصراط المستقيم .

(وقالوا:لولا أنزل عليه آيات من ربه . قل:إنما الآيات عند الله , وإنما أنا نذير مبين). .

يعنون بذلك الخوارق المادية التي صاحبت الرسالات من قبل في طفولة البشرية . والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي يشاهدها . بينما هذه هي الرسالة الأخيرة التي تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ومن ثم جاءت آياتها الخوارق آيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه ; والذي تتفتح كنوزه لجميع الأجيال ; والذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم , يحسونها خوارق معجزة كلما تدبروها , وأحسوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب !

(قل:إنما الآيات عند الله). . يظهرها عند الحاجة إليها , وفق تقديره وتدبيره . وليس لي أن أقترح على الله شيئا . ليس هذا من شأني ولا من أدبي (وإنما أنا نذير مبين). أنذر وأحذر وأكشف وأبين ; فأؤدي ما كلفته . ولله الأمر بعد ذلك والتدبير .

إنه تجريد العقيدة من كل وهم وكل شبهة . وإيضاح حدود الرسول وهو بشر مختار . فلا تتلبس بصفات الله الواحد القهار . ولا تغيم حولها الشبهات التي غامت على الرسالات حين برزت فيها الخوارق المادية , حتى اختلطت في حس الناس والتبست بالأوهام والخرافات . ونشأت عنها الانحرافات .

وهؤلاء الذين يطلبون الخوارق يغفلون عن تقدير فضل الله عليهم بتنزيل هذا القرآن:

(أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ; إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون). .

وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير . أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن ? وهو يتنزل عليهم , يحدثهم بما في نفوسهم , ويكشف لهم عما حولهم ; ويشعرهم أن عين الله عليهم , وأنه معني بهم حتى ليحدثهم بأمرهم , ويقص عليهم القصص ويعلمهم . وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير . وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم . . ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله . والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم . ثم هم لا يكتفون !

(إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون). .

فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم , وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل ; ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير . وهم الذين ينفعهم هذا القرآن , لأنه يحيا في قلوبهم , ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره , ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور .

فأما الذين لا يشعرون بهذا كله , فيطلبون آية يصدقون بها هذا القرآن ! هؤلاء المطموسون الذين لا تتفتح قلوبهم للنور . هؤلاء لا جدوى من المحاولة معهم ; وليترك أمر الفصل بينه وبينهم إلى الله !

قل:كفى بالله بيني وبينكم شهيدا , يعلم ما في السموات والأرض . والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون . .

وشهادة من يعلم ما في السماوات والأرض أعظم شهادة . وهو الذي يعلم أنهم على الباطل:

(والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون). .

الخاسرون على الإطلاق . الخاسرون لكل شيء . الخاسرون للدنيا والآخرة . الخاسرون لأنفسهم وللهدى والاستقامة والطمأنينة والحق والنور .

إن الإيمان بالله كسب . كسب في ذاته . والأجر عليه بعد ذلك فضل من الله . إنه طمأنينة في القلب واستقامة على الطريق , وثبات على الأحداث ; وثقة بالسند , واطمئنان للحمى , ويقين بالعاقبة . وإن هذا في ذاته لهو الكسب ; وهو هو الذي يخسره الكافرون . و(أؤلئك هم الخاسرون). .

الدرس الثاني:53 - 55 الرد على استعجال الكفار العذاب

ثم يمضي في الحديث عن أولئك المشركين . عن استعجالهم بالعذاب . وجهنم منهم قريب:

(ويستعجلونك بالعذاب , ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب , وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون . يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم , ويقول:ذوقوا ما كنتم تعملون). .

ولقد كان المشركون يسمعون النذير , ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين ; فيستعجلون الرسول [ ص ] بالعذاب على سبيل التحدي . وكثيرا ما يكون إمهال الله استدراجا للظالمين ليزدادوا عتوا وفسادا . أو امتحانا للمؤمنين ليزدادوا إيمانا وثباتا ; وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات . أو استبقاء لمن يعلم سبحانه أن فيهم خيرا من أؤلئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى . أو استخراجا لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين . . أو لغيرهذا وذاك من تدبير الله المستور . .

ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئا من حكمة الله وتدبيره , فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي . . (ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب). . وهنا يوعدهم الله بمجيء العذاب الذي يستعجلونه . مجيئه في حينه . ولكن حيث لا ينتظرونه ولا يتوقعونه . وحيث يبهتون له ويفاجأون به: (وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون). .

ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في بدر وصدق الله . ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله . ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم ; كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية . لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد , وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام ; وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلا بعد جيل , إلى أمد طويل . وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله .

وبعد الوعيد بعذاب الدنيا الذي يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون , جعل يكرر استنكاره لاستعجالهم بالعذاب , وجهنم لهم بالمرصاد:

(يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين). .

وعلى طريقة القرآن في التصوير , وفي استحضار المستقبل كأنه مشهود , صور لهم جهنم محيطة بالكافرين . وذلك بالقياس إليهم مستقبل مستور ; ولكنه بالقياس إلى الواقع المكشوف لعلم الله حاضر مشهود . وتصويره على حقيقته المستورة يوقع في الحس رهبة , ويزيد استعجالهم بالعذاب نكارة . فأنى يستعجل من تحيط به جهنم , وتهم أن تطبق عليه وهو غافل مخدوع ?!

ويرسم لهم صورتهم في جهنم هذه المحيطة بهم ; وهم يستعجلون بالعذاب:

(يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم , ويقول:ذوقوا ما كنتم تعملون). .

وهو مشهد مفزع في ذاته , يصاحبه التقريع المخزي والتأنيب المرير: (ذوقوا ما كنتم تعملون). . فهذه نهاية الاستعجال بالعذاب ; والاستخفاف بالنذير .

الدرس الثالث:56 - 60 دعوة المؤمنين إلى الهجرة

ويدع الجاحدين المكذبين المستهترين في مشهد العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم , ليلتفت إلى المؤمنين , الذين يفتنهم أولئك المكذبون عن دينهم , ويمنعونهم من عبادة ربهم . . يلتفت إليهم يدعوهم إلى الفرار بدينهم , والنجاة بعقيدتهم . في نداء حبيب وفي رعاية سابغة , وفي أسلوب يمس كل أوتار القلوب:

يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة , فإياي فاعبدون . كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , نعم أجر العاملين , الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . وكأي من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم , وهو السميع العليم . .

إن خالق هذه القلوب , الخبير بمداخلها , العليم بخفاياها , العارف بما يهجس فيها , وما يستكن في حناياها . . إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب:يا عبادي الذين آمنوا:يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها , لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها . بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها: (يا عبادي). .

هذه هي اللمسة الأولى . واللمسة الثانية: (إن أرضي واسعة). .

أنتم عبادي . وهذه أرضي . وهي واسعة . فسيحة تسعكم . فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق , الذي تفتنون فيه عن دينكم , ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم ? غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة , ناجين بدينكم , أحرارا في عبادتكم (فإياي فاعبدون).

إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة . ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين:بالنداء الحبيب القريب: (يا عبادي)وبالسعة في الأرض: (إن أرضي واسعة)وما دامت كلها أرض الله , فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه .

ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها . فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة . خطر الموت الكامن في محاولة الخروج - وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة , ولا يسمحون لهم بالهجرة عندما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين - ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من مكة . ومن هنا تجيء اللمسة الثانية:

كل نفس ذائقة الموت . ثم إلينا ترجعون). .

فالموت حتم في كل مكان , فلا داعي أن يحسبوا حسابه , وهم لا يعلمون أسبابه . وإلى الله المرجع والمآب . فهم مهاجرون إليه , في أرضه الواسعة , وهم عائدون إليه في نهاية المطاف . وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة . فمن ذا يساوره الخوف , أو يهجس في ضميره القلق , بعد هذه اللمسات ?

ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده ; بل يكشف عما أعده لهم هناك . وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة . ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض . عوض من نوعها وأعظم منها:

(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها).

وهنا يهتف لهم بالعمل والصبر والتوكل على الله:

نعم أجر العاملين , الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . .

وهي لمسة التثبيت والتشجيع لهذه القلوب , في موقف القلقلة والخوف والحاجة إلى التثبيت والتشجيع .

ثم يهجس في النفس خاطر القلق على الرزق , بعد مغادرة الوطن والمال ومجال العمل والنشاط المألوف , وأسباب الرزق المعلومة . فلا يدع هذا الخاطر دون لمسة تقر لها القلوب:

وكأي من دابة لا تحمل رزقها , الله يرزقها وإياكم . .

لمسة توقظ قلوبهم إلى الواقع المشهود في حياتهم . فكم من دابة لا تحصل رزقها ولا تجمعه ولا تحمله ولا تهتم به , ولا تعرف كيف توفره لنفسها , ولا كيف تحتفظ به معها . ومع هذا فإن الله يرزقها ولا يدعها تموت جوعا . وكذلك يرزق الناس . ولو خيل إليهم أنهم يخلقون رزقهم وينشئونه . إنما يهبهم الله وسيلة الرزق وأسبابه . وهذه الهبة في ذاتها رزق من الله , لا سبيل لهم إليه إلا بتوفيق الله . فلا مجال للقلق على الرزق عند الهجرة . فهم عباد الله يهاجرون إلى أرض الله يرزقهم الله حيث كانوا . كما يرزق الدابة لا تحمل رزقها , ولكن الله يرزقها ولا يدعها .

ويختم هذه اللمسات الرفيقة العميقة بوصلهم بالله , وإشعارهم برعايته وعنايته , فهو يسمع لهم ويعلم حالهم , ولا يدعهم وحدهم: (وهو السميع العليم). .

وتنتهي هذه الجولة القصيرة ; وقد لمست كل حنية في تلك القلوب ; ولبت كل خاطر هجس فيها في لحظة الخروج . وقد تركت مكان كل مخافة طمأنينة , ومكان كل قلق ثقة , ومكان كل تعب راحة . وقد هدهدت تلك القلوب وغمرتها بشعور القربى والرعاية والأمان في كنف الله الرحيم المنان .

ألا إنه لا يدرك هواجس القلوب هكذا إلا خالق القلوب . ولا يداوي القلوب هكذا إلا الذي يعلم ما في القلوب .

الدرس الرابع:61 - 68 تسجيل تناقض الكفار الفكري والديني

وبعد هذه الجولة مع المؤمنين يرتد السياق إلى التناقض في موقف المشركين وتصوراتهم . فهم يقرون بخلق الله للسماوات والأرض وتسخيره للشمس والقمر وإنزاله الماء من السماء وإحيائه الأرض بعد موتها . وما يتضمنه هذا من بسط الرزق لهم أو تضييقه عليهم . وهم يتوجهون لله وحده بالدعاء عند الخوف . . ثم هم بعد ذلك كله يشركون بالله , ويؤذون من يعبدونه وحده , ويفتنونهم عن عقيدتهم التي لا تناقض فيها ولا اضطراب , وينسون نعمة الله عليهم في تأمينهم في البيت الحرام , وهم يروعون عباده في بيته الحرام:

ولئن سألتهم:من خلق السماوات والأرض , وسخر الشمس والقمر ليقولن:الله . فأنى يؤفكون ? الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له , إن الله بكل شيء عليم . ولئن سألتهم:من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن:الله . قل:الحمد لله , بل أكثرهم لا يعقلون . وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب , وإن الدار الآخرة لهي الحيوان , لو كانوا يعلمون . فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين . فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون , ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون . أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ? ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه ? أليس في جهنم مثوى للكافرين ? . .

وهذه الآيات ترسم صورة لعقيدة العرب إذ ذاك ; وتوحي بأنه كان لها أصل من التوحيد ; ثم وقع فيها الانحراف . ولا عجب في هذا فهم من أبناء إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - وقد كانوا بالفعل يعتقدون أنهم على دين إبراهيم , وكانوا يعتزون بعقيدتهم على هذا الأساس ; ولم يكونوا يحفلون كثيرا بالديانة الموسوية أو المسيحية وهما معهم في الجزيرة العربية , اعتزازا منهم بأنهم على دين إبراهيم . غير منتبهين إلى ما صارت إليه عقيدتهم من التناقض والانحراف .

كانوا إذا سئلوا عن خالق السماوات والأرض , ومسخر الشمس والقمر , ومنزل الماء من السماء , ومحيي الأرض بعد موتها بهذا الماء . . يقرون أن صانع هذا كله هو الله . ولكنهم مع هذا يعبدون أصنامهم , أو يعبدون الجن , أو يعبدون الملائكة ; ويجعلونهم شركاء لله في العبادة , وإن لم يجعلوهم شركاء له في الخلق . . هو تناقض عجيب . تناقض يعجب الله منه في هذه الآيات: (فأنى يؤفكون ?)أي كيف يصرفون عن الحق إلى هذا التخليط العجيب ? (بل أكثرهم لا يعقلون)فليس يعقل من يقبل عقله هذا التخليط !

وبين السؤال عن خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر ; والسؤال عن منزل الماء من السماء ومحيي الأرض بعد موتها . يقرر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له فيربط سنة الرزق بخلق السماوات والأرض وسائر آثار القدرة والخلق , ويكل هذا إلى علم الله بكل شيء: إن الله بكل شيء عليم . .

والرزق ظاهر الارتباط بدورة الأفلاك , وعلاقتها بالحياة والماء والزرع والإنبات . وبسط الرزق وتضييقه بيد الله ; وفق الأوضاع والظواهر العامة المذكورة في الآيات . فموارد الرزق من ماء ينزل , وأنهار تجري , وزروع تنبت , وحيوان يتكاثر . ومن معادن وفلزات في جوف الأرض , وصيد في البر والبحر . .

إلى نهاية موارد الرزق العامة , تتبع كلها نواميس السماوات والأرض , وتسخير الشمس والقمر تبعية مباشرة ظاهرة . ولو تغيرت تلك النواميس عما هي عليه أدنى تغيير لظهر أثر هذا في الحياة كلها على سطح الأرض ; وفي المخبوء فيها من الثروات الطبيعية الأخرى سواء بسواء . فحتى هذا المخبوء في جوف الأرض ; إنما يتم تكوينه وتخزينه واختلافه من مكان إلى مكان وفق أسباب من طبيعة الأرض ومن مجموعة تأثراتها بالشمس والقمر !

والقرآن يجعل الكون الكبير ومشاهده العظيمة هي برهانه وحجته , وهي مجال النظر والتدبر للحق الذي جاء به . ويقف القلب أمام هذا الكون وقفة المتفكر المتدبر , اليقظ لعجائبه , الشاعر بيد الصانع وقدرته , المدرك لنواميسه الهائلة , بلفتة هادئة يسيرة , لا تحتاج إلى علم شاق عسير , إنما تحتاج إلى حس يقظ وقلب بصير . وكلما جلا آية من آيات الله في الكون وقف أمامها يسبح بحمد الله ويربط القلوب بالله: (قل الحمد لله . بل أكثرهم لا يعقلون !).

وبمناسبة الحديث عن الحياة في الأرض وعن الرزق والبسط فيه والقبض , يضع أمامه الميزان الدقيق للقيم كلها . فإذا الحياة الدنيا بأرزاقها ومتاعها لهو ولعب حين تقاس بالحياة في الدار الآخرة:

(وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب , وإن الدار الآخرة لهي الحيوان , لو كانوا يعلمون). .

فهذه الحياة الدنيا في عمومها ليست إلا لهوا ولعبا حين لا ينظر فيها إلى الآخرة . حين تكون هي الغاية العليا للناس . حين يصبح المتاع فيها هو الغاية من الحياة . فأما الحياة الآخرة فهي الحياة الفائضة بالحيوية . هي(الحيوان)لشدة ما فيها من الحيوية والامتلاء .

والقرآن لا يعني بهذا أن يحض على الزهد في متاع الحياة الدنيا والفرار منه وإلقائه بعيدا . إن هذا ليس روح الإسلام ولا اتجاهه . إنما يعني مراعاة الآخرة في هذا المتاع , والوقوف فيه عند حدود الله . كما يقصد الاستعلاء عليه فلا تصبح النفس أسيرة له , يكلفها ما يكلفها فلا تتأبى عليه ! والمسألة مسألة قيم يزنها بميزانها الصحيح . فهذه قيمة الدنيا وهذه قيمة الآخرة كما ينبغي أن يستشعرها المؤمن ; ثم يسير في متاع الحياة الدنيا على ضوئها , مالكا لحريته معتدلا في نظرته:الدنيا لهو ولعب , والآخرة حياة مليئة بالحياة .

وبعد هذه الوقفة للوزن والتقويم يمضي في عرض ما هم فيه من متناقضات:

(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين . فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). .

وهذا كذلك من التناقض والاضطراب . فهم إذا ركبوا في الفلك ; وأصبحوا على وجه اليم كاللعبة تتقاذفها الأمواج ; لم يذكروا إلا الله . ولم يشعروا إلا بقوة واحدة يلجأون إليها هي قوة الله . ووحدوه في مشاعرهم وعلى ألسنتهم سواء ; وأطاعوا فطرتهم التي تحس وحدانية الله: (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)ونسوا وحي الفطرة المستقيم ونسوا دعاءهم لله وحده مخلصين له الدين وانحرفوا إلى الشرك بعد الإقرار والتسليم !

وغاية هذا الانحراف أن ينتهي بهم إلى الكفر بما آتاهم الله من النعمة , وما آتاهم من الفطرة , وما آتاهم من البينة ; وأن يتمتعوا متاع الحياة الدنيا المحدود إلى الأجل المقدور . ثم يكون بعد ذلك ما يكون , وهو الشر والسوء .

(ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون). .

وهو التهديد من طرف خفي بسوء ما سوف يعلمون !

ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم في إعطائهم هذا الحرم الآمن الذي يعيشون فيه ; فلا يذكرون نعمة الله ولا يشكرونها بتوحيده وعبادته . بل إنهم ليروعون المؤمنين فيه:
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ? أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ? . .

ولقد كان أهل الحرم المكي يعيشون في أمن , يعظمهم الناس من أجل بيت الله , ومن حولهم القبائل تتناحر , ويفزع بعضهم بعضا , فلا يجدون الأمان إلا في ظل البيت الذي آمنهم الله به وفيه . فكان عجيبا أن يجعلوا من بيت الله مسرحا للأصنام , ولعبادة غير الله أيا كان ! (أفبالباطل يؤمنون ? وبنعمة الله يكفرون ?)

(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه ? أليس في جهنم مثوى للكافرين ?). .

وهم قد افتروا على الله الكذب بنسبة الشركاء إليه . وهم كذبوا بالحق لما جاءهم وجحدوا به . أليس في جهنم مثوى للكافرين ? بلى وعن يقين !

الدرس الخامس:69 الهداية ثمرة الجهاد

ويختم السورة بصورة الفريق الآخر . الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه ; ويتصلوا به . الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا فلم ينكصوا ولم ييأسوا . الذين صبروا على فتنة النفس وعلى فتنة الناس . الذين حملوا أعباءهم وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب . . أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع إيمانهم , ولن ينسى جهادهم .

إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم . وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم . وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم . وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء:

(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا . وإن الله لمع المحسنين). .

هناك تعليقان (2):

;