الأربعاء، 9 يناير 2013

تفسير سورة المطففين في ظلال القرآن سيد قطب

المطففين

هذه السورة تصور قطاعا من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة - إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب , وهز المشاعر , وتوجيهها إلى هذا الحدث الجديد في حياة العرب وفي حياة الإنسانية , وهو الرسالة السماوية للأرض , وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط .

هذا القطاع من الواقع العملي تصوره السورة في أولها , وهي تتهدد المطففين بالويل في اليوم العظيم ,(يوم يقوم الناس لرب العالمين). . كما تصوره في ختامها وهي تصف سوء أدب الذين أجرموا مع الذين آمنوا , وتغامزهم عليهم , وضحكهم منهم , وقولهم عنهم: (إن هؤلاء لضالون !).

وهذا إلى جانب ما تعرضه من حال الفجار وحال الأبرار ; ومصير هؤلاء وهؤلاء في ذلك اليوم العظيم .

وهي تتألف من أربعة مقاطع . . يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين : (ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ; وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ?). .

ويتحدث المقطع الثاني عن الفجار في شدة وردع وزجر , وتهديد بالويل والهلاك , ودمغ بالإثم والاعتداء , وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس , وتصوير لجزائهم يوم القيامة , وعذابهم بالحجاب عن ربهم , كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم , ثم بالجحيم مع الترذيل والتأنيب: كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين ? كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين ! الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم , إذا تتلى عليه آياتنا قال:أساطير الأولين . كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون . .

والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة . صفحة الأبرار . ورفعة مقامهم . والنعيم المقرر لهم . ونضرته التي تفيض على وجوههم . والرحيق الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون . . وهي صفحة ناعمة وضيئة:(كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون ? كتاب مرقوم , يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم , على الأرائك ينظرون , تعرف في وجوههم نضرة النعيم , يسقون من رحيق مختوم , ختامه مسك - وفي ذلك فليتنافس المتنافسون - ومزاجه من تسنيم . عينا يشرب بها المقربون). .

والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب . ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل:
(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون , وإذا مروا بهم يتغامزون , وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا:إن هؤلاء لضالون . وما أرسلوا عليهم حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ?). .

السورة في عمومها تمثل جانبا من بيئة الدعوة , كما تمثل جانبا من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة , وواقع النفس البشرية . . . وهذا ما سنحاول الكشف عنه في عرضنا السورة بالتفصيل . .

الدرس الأول:1 - 6 ذم المطففين ومظاهر التطفف

(ويل للمطففين:الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون , وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم:يوم يقوم الناس لرب العالمين ?). .

تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله على المطففين :(ويل للمطففين). . والويل:الهلاك . وسواء كان المراد هو تقرير أن هذا أمر مقضي , أو أن هذا دعاء . فهو في الحالين واحد فالدعاء من الله قرار . .

وتفسر الآيتان التاليتان معنى المطففين فهم:(الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون). . فهم الذين يتقاضون بضاعتهم وافية إذا كانوا شراة . ويعطونها للناس ناقصة إذا كانوا بائعين . .

ثم تعجب الآيات الثلاثة التالية من أمر المطففين الذين يتصرفون كأنه ليس هناك حساب على ما يكسبون في الحياة الدنيا ; وكأن ليس هناك موقف جامع بين يدي الله في يوم عظيم يتم فيه الحساب والجزاء أمام العالمين:(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ?). .

والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في السورة مكية أمر يلفت النظر .السورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية:كتقرير وحدانية الله , وانطلاق مشيئته , وهيمنته على الكون والناس . . . وكحقيقة الوحي والنبوة . . وكحقيقة الآخرة والحساب والجزاء . مع العناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها , وربطها بأصول العقيدة . أما التصدي لمسألة بذاتها من مسائل الأخلاق - كمسألة التطفيف في الكيل والميزان - والمعاملات بصفة عامة , فأمر جاء متأخرا في السورة المدنية عند التصدي لتنظيم حياة المجتمع في ظل الدولة الإسلامية , وفق المنهج الإسلامي , الشامل للحياة . .

ومن ثم فإن التصدي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الانتباه . وهو يشي بعدة دلالات متنوعة , تكمن وراء هذه الآيات القصار . .

إنه يدل أولا على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء , الذين كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجارات الواسعة , التي تكاد تكون احتكارا . فقد كانت هنالك أموالا ضخمة في أيدي هؤلاء الكبراء يتجرون بها عن طريق القوافل في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام . كما افتتحوا أسواقا موسمية كسوق عكاظ في موسم الحج , يقومون فيها بالصفقات ويتناشدون فيها الأشعار !

والنصوص القرآنية هنا تشي بأن المطففين الذين يتهددهم الله بالويل , ويعلن عليهم هذه الحرب , كانوا طبقة الكبراء ذوي النفوذ , الذين يملكون إكراه الناس على ما يريدون . فهم يكتالون (على الناس). . لا من الناس . . فكأن لهم سلطانا على الناس بسبب من الأسباب , يجعلهم يستوفون المكيال والميزان منهم استيفاء وقسرا . وليس المقصود هو أنهم يستوفون حقا . وإلا فليس في هذا ما يستحق إعلان الحرب عليهم . إنما المفهوم أنهم يحصلون بالقسر على أكثر من حقهم , ويستوفون ما يريدون إجبارا . فإذا كالوا للناس أو وزنوا كان لهم من السلطان ما يجعلهم ينقصون حق الناس , دون أن يستطيع هؤلاء منهم نصفة ولا استيفاء حق . .

ويستوي أن يكون هذا بسلطان الرياسة والجاه القبلي . أو بسلطان المال وحاجة الناس لما في أيديهم منه ; واحتكارهم للتجارة حتى يضطر الناس إلى قبول هذا الجور منهم ; كما يقع حتى الآن في الأسواق . . فقد كانت هناك حالة من التطفيف صارخة استحقت هذه اللفتة المبكرة .

كما أن هذه اللفتة المبكرة في البيئة المكية تشي بطبيعة هذا الدين ; وشمول منهجه للحياة الواقعية وشؤونها العملية ; وإقامتها على الأساس الأخلاقي العميق الأصيل في طبيعة هذا المنهج الإلهي القويم . فقد كره هذه الحالة الصارخة من الظلم والانحراف الأخلاقي في التعامل . وهو لم يتسلم بعد زمام الحياة الاجتماعية , لينظمها وفق شريعته بقوة القانون وسلطان الدولة . وأرسل هذه الصيحة المدوية بالحرب والويل على المطففين . وهم يومئذ سادة مكة , أصحاب السلطان المهيمن - لا على أرواح الناس ومشاعرهم عن طريق العقيدة الوثنية فحسب , بل كذلك على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم . ورفع صوته عاليا في وجه الغبن والبخس الواقع على الناس وهم جمهرة الشعب المستغلين لكبرائه المتجرين بأرزاقه , المرابين المحتكرين , المسيطرين في الوقت ذاته على الجماهيربأوهام الدين !

فكان الإسلام بهذه الصيحة المنبعثة من ذاته ومن منهجه السماوي موقظا للجماهير المستغلة . ولم يكن قط مخدرا لها حتى وهو محاصر في مكة , بسطوة المتجبرين , المسيطرين على المجتمع بالمال والجاه والدين !

ومن ثم ندرك طرفا من الأسباب الحقيقية التي جعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة . فهم كانوا يدركون - ولا ريب - أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد [ ص ] ليس مجرد عقيدة تكمن في الضمير , ولا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة , بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وصلاة يقيمونها لله بلا أصنام ولا أوثان . .

كلا . لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجا يحطم كل أساس الجاهلية التي تقوم عليها أوضاعهم ومصالحهم ومراكزهم . وأن طبيعة هذا المنهج لا تقبل مثنوية ولا تلتئم مع عنصر أرضي غير منبثق من عنصرها السماوي ; وأنها تهدد كل المقومات الأرضية الهابطة التي تقوم عليها الجاهلية . . ومن ثم شنوا عليها تلك الحرب التي لم تضع أوزارها لا قبل الهجرة ولا بعدها . الحرب التي تمثل الدفاع عن أوضاعهم كلها في وجه الأوضاع الإسلامية . لا عن مجرد الاعتقاد والتصور المجردين . .

والذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل وفي كل أرض يدركون هذه الحقيقة . يدركونها جيدا . ويعلمون أن أوضاعهم الباطلة , ومصالحهم المغتصبة , وكيانهم الزائف . . وسلوكهم المنحرف . . هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي القويم الكريم !

والطغاة البغاة الظلمة المطففون - في أية صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات - هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل النظيف ! الذي لا يقبل المساومة , ولا المداهنة , ولا أنصاف الحلول ?

ولقد أدرك ذلك الذين بايعوا رسول الله [ ص ] من نقباء الأوس والخزرج بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة:قال ابن إسحاق:وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله [ ص ] قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف:يا معشر الخزرج . هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ? قالوا:نعم . قال:إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس . فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن ! فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة . وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه , على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه , فهو والله خير الدنيا والآخرة , قالوا:فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف . فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ? قال:" الجنة " . . قالوا:ابسط يدك . فبسط يده فبايعوه .

فقد أدرك هؤلاء - كما أدرك كبراء قريش من قبل - طبيعة هذا الدين . وأنه قائم كحد السيف للعدل والنصفة وإقامة حياة الناس على ذلك , لا يقبل من طاغية طغيانا , ولا من باغ بغيا , ولا من متكبر كبرا . ولا يقبل للناس الغبن والخسف والاستغلال . ومن ثم يحاربه كل طاغ باغ متكبر مستغل ; ويقف لدعوته ولدعاته بالمرصاد .

(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ?). .
وإن أمرهم لعجيب . فإن مجرد الظن بالبعث لذلك اليوم العظيم . يوم يقوم الناس متجردين لرب العالمين , ليس لهم مولى يومئذ سواه , وليس بهم إلا التطلع لما يجريه عليهم من قضاء , وقد علموا أن ليس لهم من دونه ولي ولا نصير . . إن مجرد الظن بأنهم مبعوثون لذلك اليوم كان يكفي ليصدهم عن التطفيف , وأكل أموال الناس بالباطل , واستخدام السلطان في ظلم الناس وبخسهم حقهم في التعامل . . ولكنهم ماضون في التطفيف كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ! وهو أمر عجيب , وشأن غريب !

الدرس الثاني:7 - 14 عذاب الكفار في النار وبعض جرائمهم في الدنيا

وقد سماهم المطففين في المقطع الأول . فأما في المقطع الثاني فيسميهم الفجار . إذ يدخلهم في زمرة الفجار , ويتحدث عن هؤلاء . يتحدث عن اعتبارهم عند الله , وعن حالهم في الحياة . وعما ينتظرهم يوم يبعثون ليوم عظيم .

كلا ! إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين ? كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين:الذين يكذبون بيوم الدين ; وما يكذب به إلا كل معتد أثيم , إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين . كلا ! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالو الجحيم . ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون . .

إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم . . فالقرآن يردعهم عن هذا ويزجرهم , ويؤكد أن لهم كتابا تحصى فيه أعمالهم . . ويحدد موضعه زيادة في التوكيد . ويوعدهم بالويل في ذلك اليوم الذي يعرض فيه كتابهم المرقوم:(كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين ? كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين)! .

والفجار هم المتجاوزون للحد في المعصية والإثم . واللفظ يوحي بذاته بهذا المعنى . وكتابهم هو سجل أعمالهم . ولا ندري نحن ماهيته ولم نكلف هذا . وهو غيب لا نعرف عنه إلا بمقدار ما يخبرنا عنه صاحبه ولا زيادة - فهناك سجل لأعمال الفجار يقول القرآن:إنه في سجين . ثم يسأل سؤال الاستهوال المعهود في التعبير القرآني:(وما أدراك ما سجين ?)فيلقي ظلال التفخيم ويشعر المخاطب أن الأمر أكبر من إدراكه , وأضخم من أن يحيط به علمه .

ولكنه بقوله: (إن كتاب الفجار لفي سجين)يكون قد حدد له موضعا معينا , وإن يكن مجهولا للإنسان . وهذا التحديد يزيد من يقين المخاطب عن طريق الإيحاء بوجود هذا الكتاب . وهذا هو الإيحاء المقصود من وراء ذكر هذه الحقيقة بهذا القدر , دون زيادة .

ثم يعود إلى وصف كتاب الفجار ذاك فيقول:إنه(كتاب مرقوم). . أي مفروغ منه , لا يزاد فيه ولا ينقص منه , حتى يعرض في ذلك اليوم العظيم .
فإذا كان ذلك:كان(ويل يومئذ للمكذبين)!

ويحدد موضوع التكذيب , وحقيقة المكذبين:

(الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم . إذا تتلى عليه آياتنا قال:أساطير الأولين). . فالاعتداء والإثم يقودان صاحبهما إلى التكذيب بذلك اليوم ; وإلى سوء الأدب مع هذا القرآن فيقول عن آياته حين تتلى عليه: (أساطير الأولين). . لما يحويه من قصص الأولين المسوقة فيه للعبرة والعظة , وبيان سنة الله التي لا تتخلف , والتي تأخذ الناس في ناموس مطرد لا يحيد .

ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع:(كلا !)ليس كما يقولون . .

ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب ; وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين:

(بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). .
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية . والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم ;ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور , ويفقده الحساسية شيئا فشيئا حتى يتبلد ويموت . .

روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق , عن محمد بن عجلان , عن القعقاع بن حكيم , عن أبي صالح , عن أبي هريرة , عن النبي [ ص ] قال:" إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه . فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت " . . وقال الترمذي حسن صحيح . ولفظ النسائي:" إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء . فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه , فهو الران الذي قال الله تعالى:(كلا ! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). . "

وقال الحسن البصري:هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت . .

ذلك حال الفجار المكذبين . وهذه هي علة الفجور والتكذيب . . ثم يذكر شيئا عن مصيرهم في ذلك اليوم العظيم . يناسب علة الفجور والتكذيب:

كلا ! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالو الجحيم . ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون . .

لقدحجبت قلوبهم المعاصي والآثام , حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا . وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة . . فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم , وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى , التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها . ممن قال فيهم في السورة القيامة:
(وجوه يومئذ ناضرة , إلى ربها ناظرة). .

وهذا الحجاب عن ربهم , عذاب فوق كل عذاب , وحرمان فوق كل حرمان . ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم . فإذا حجب عن هذا المصدر فقد خصائصه كإنسان كريم ; وارتكس إلى درجة يستحق معها الجحيم:(ثم إنهم لصالوا الجحيم). . ومع الجحيم التأنيب وهو أمر من الجحيم:(ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون)!!

الدرس الثالث:18 - 28 صور من نعيم الأبرار في الجنة

ثم يعرض الصفحة الأخرى . صفحة الأبرار . على العهد بطريقة القرآن في عرض الصفحتين متقابلتين في الغالب , لتتم المقابلة بين حقيقتين وحالين ونهايتين:

(كلا ! إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون ? كتاب مرقوم , يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم , على الأرائك ينظرون , تعرف في وجوههم نضرة النعيم , يسقون من رحيق مختوم , ختامه مسك . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . ومزاجه من تسنيم . عينا يشرب بها المقربون). .

وكلمة(كلا)تجيء في صدر هذا المقطع زجرا عما ذكر قبله من التكذيب في قوله:(ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون). . ويعقب عليه بقوله:(كلا)ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد .
فإذا كان كتاب الفجار في(سجين)فإن كتاب الأبرار في(عليين). . . والأبرار هم الطائعون الفاعلون كل خير . وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد . .

ولفظ(عليين)يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن(سجين)يفيد الانحطاط والسفول . ثم يعقب عليه بسؤال التجهيل والتهويل المعهود:(وما أدراك ما عليون ?). . فهو أمر فوق العلم والإدراك !

ويعود من هذا الظل الموحي إلى تقرير حقيقة كتاب الأبرار . . فهو(كتاب مرقوم يشهده المقربون)وقد سبق ذكر معنى مرقوم . ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربين يشهدون هذا الكتاب ويرونه . وتقرير هذه الحقيقة هنا يلقي ظلا كريما طاهرا رفيعا على كتاب الأبرار . فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة , ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات . وهذا ظل كريم شفيف , يذكر بقصد التكريم .

ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم , أصحاب هذا الكتاب الكريم . ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم:

(إن الأبرار لفي نعيم). . يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار . .(على الأرائك ينظرون)أي إنهم في موضع التكريم , ينظرون حيث يشاءون , لا يغضون من مهانة , ولا يشغلون عن النظر من مشقة . . وهم على الأرائك وهي الأسرة في الحجال . وأقرب ما يمثلها عندنا ما نسميه "الناموسية " أو الكلة ! وصورتها الدنيوية كانت أرقى وأرق مظاهر النعيم عند العربي ذي العيشة الخشنة ! أما صورتها الأخروية فعلمها عند الله . وهي على أية حال أعلى من كل ما يعهده الإنسان مما يستمده من تجاربه في الأرض وتصوراته !

وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام , تفيض النضرة على وجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء:
(تعرف في وجوههم نضرة النعيم). .

(يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك). .
والرحيق الشراب الخالص المصفى , الذي لا غش فيه ولا كدرة . ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك , قد يفيد أنه معد في أوانيه , وأن هذه الأواني مقفلة مختومة , تفض عند الشراب , وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية ! . كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية ! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض . فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود !

وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين:(ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون). . أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة:(تسنيم)التي (يشرب بها المقربون). . قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع , وبهذا التوجيه: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). . وهو إيقاع عميق يدل على كثير . . .

إن أولئك المطففين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل , ولا يحسبون حساب اليوم الآخر , ويكذبون بيوم الحساب والجزاء , ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية . . إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه , وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل . .
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس . إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). . فهو مطلب يستحق المنافسة , وهو أفق يستحق السباق , وهو غاية تستحق الغلاب .

والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم , إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة . .

ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين !

والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة , ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله , ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله - سبحانه - وهو يقول: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .

وإن قوله (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). . لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة , بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه !

إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود , وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود ! فأين مجال من مجال ? وأين غاية من غاية ? حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب ?!

ألا إن السباق إلى هناك . . (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). .

الدرس الرابع:29 - 34

من جرائم المجرمين ضد المؤمنين في الدنيا واختلاف الموقف يوم القيامة

وكأنما أطال السياق في عرض صور النعيم الذي ينتظر الأبرار , تمهيدا للحديث عما كانوا يلقون في الأرض من الفجار . من أذى واستهزاء وتطاول وادعاء . . وقد أطال في عرضه كذلك . ليختمه بالسخرية من الكفار , وهم يشهدون نعيم الأبرار:

(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . وإذا مروا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا:إن هؤلاء لضالون . . وما أرسلوا عليهم حافظين). .

(فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون , على الأرائك ينظرون). .

(هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ?). .

والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا , وسوء أدبهم معهم , وتطاولهم عليهم , ووصفهم بأنهم ضالون . . مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة . ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى . وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها . مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور !!

(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون). . كانوا . . فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة . فإذا المخاطبون به في الآخرة . يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا . وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا !

إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم , وسخرية منهم . إما لفقرهم ورثاثة حالهم . وإما لضعفهم عن رد الأذى . وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء . . فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا . وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة . وهم يسلطون عليهم الأذى , ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع , مما يصيب الذين آمنوا , وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين !

(وإذا مروا بهم يتغامزون). . يغمز بعضهم لبعض بعينه , أو يشيره بيده , أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين . وهي حركة وضيعة واطية تكشف عن سوء الأدب , والتجرد من التهذيب . بقصد إيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين , وإصابتهم بالخجل والربكة , وهؤلاء الأوغاد يتغامزون عليهم ساخرين !

(وإذا انقلبوا إلى أهلهم)بعدما أشبعوا نفوسهم الصغيرة الرديئة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم . . (انقلبوا فكهين). . راضين عن أنفسهم , مبتهجين بما فعلوا , مستمتعين بهذا الشر الصغير الحقير . فلم يتلوموا ولم يندموا , ولم يشعروا بحقارة ما صنعوا وقذارة ما فعلوا . وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من إسفاف وموت للضمير !

(وإذا رأوهم قالوا:إن هؤلاء لضالون)!
وهذه أعجب . . فليس أعجب من أن يتحدث هؤلاء الفجار المجرمون عن الهدى والضلال . وأن يزعموا حين يرون المؤمنين , أن المؤمنين ضالون . ويشيروا إليهم مؤكدين لهذا الوصف في تشهير وتحقير: (إن هؤلاء لضالون !). .

والفجور لا يقف عند حد , ولا يستحيي من قول , ولا يتلوم من فعل . واتهام المؤمنين بأنهم ضالون حين يوجهه الفجار المجرمون , إنما يمثل الفجور في طبيعته التي هي تجاوز لجميع الحدود !

والقرآن لا يقف ليجادل عن الذين آمنوا , ولا ليناقش طبيعة الفرية . فهي كلمة فاجرة لا تستحق المناقشة . ولكنه يسخر سخرية عالية من القوم الذين يدسون أنوفهم فيما ليس من شأنهم , ويتطفلون بلا دعوة من أحد في هذا الأمر:(وما أرسلوا عليهم حافظين). . وما وكلوا بشأن هؤلاء المؤمنين , وما أقيموا عليهم رقباء , ولا كلفوا وزنهم وتقدير حالهم ! فما لهم هم وهذا الوصف وهذا التقرير !

وينهي بهذه السخرية العالية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا . . ما كان . . ويطوي هذا المشهد الذي انتهى . ليعرض المشهد الحاضر والذين آمنوا في ذلك النعيم:
(فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون). .

اليوم والكفار محجوبون عن ربهم , يقاسون ألم هذا الحجاب الذي تهدر معه إنسانيتهم , فيصلون الجحيم , مع الترذيل والتأنيب حين يقال: (هذا الذي كنتم به تكذبون). .

اليوم والذين آمنوا على الأرائك ينظرون . في ذلك النعيم المقيم , وهم يتناولون الرحيق المختوم بالمسك الممزوج بالتسنيم . .
فاليوم . . الذين آمنوا من الكفار يضحكون . .

والقرآن يتوجه بالسخرية العالية مرة أخرى وهو يسأل:

(هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ?).
أجل ! هل ثوبوا ? هل وجدوا ثواب ما فعلوا ? وهم لم يجدوا(الثواب)المعروف من الكلمة . فنحن نشهدهم اللحظة في الجحيم ! ولكنهم من غير شك لاقوا جزاء ما فعلوا . فهو ثوابهم إذن . وياللسخرية الكامنة في كلمة الثواب في هذا المقام !

ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته - مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا - كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه . فنجد أن هذه الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري , كما أنه فن عال في العلاج الشعوري . فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق . وكان ربهم لا يتركهم بلا عون , من تثبيته وتسريته وتأسيته .

وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين , فيه بلسم لقلوبهم . فربهم هو الذي يصف هذه المواجع . فهو يراها , وهو لا يهملها - وإن أمهل الكافرين حينا - وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه . إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . وكيف يؤذيهم المجرمون . وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون . وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون ! إن ربهم يرى هذا كله . ويصفه في تنزيله . فهو إذن شيء في ميزانه . . . وهذا يكفي ! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .

ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذنوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة , تحسه وتقدره , وتستريح إليه وتستنيم !

ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها , ونعيمها في جناته , وكرامتها في الملأ الأعلى . على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم , مع الإهانة والترذيل . . تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف . وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة , وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم .

ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة , وأذاهم البالغ , وسخريتهم اللئيمة . . الجنة للمؤمنين , والجحيم للكافرين . وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل . . وهذا كان وحده الذي وعد به النبي [ ص ] المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس !

فأما النصر في الدنيا , والغلب في الأرض , فلم يكن أبدا في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت . .

لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال , بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين !

حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء . وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب , وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت , آتاها النصر في الأرض , وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة , مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ; ولمتتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه !

وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة , تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدرا من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !

هناك 3 تعليقات:

;