سورة التكوير
تعريف بسورة التكوير
هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة:
الأولى حقيقة القيامة , وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل , يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار , والأرض والسماء , والأنعام والوحوش , كما يشمل بني الإنسان .
والثانية حقيقة الوحي , وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله , وصفة النبي الذي يتلقاه , ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه , ومع المشيئة الكبرى التى فطرتهم ونزلت لهم الوحي .
والإيقاع العام للسورة أشبه بحركة جائحة . تنطلق من عقالها . فتقلب كل شيء , وتنثر كل شيء ; وتهيجالساكن وتروع الآمن ; وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود ; وتهز النفس البشرية هزا عنيفا طويلا , يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه , وتتشبث به , فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار . ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار , الذي له وحده البقاء والدوام , وعنده وحده القرار والاطمئنان . .
ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن , لتلوذ بكنف الله , وتأوي إلى حماه , وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار . .
وفي السورة - مع هذا - ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة , سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه , أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع . وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة ! المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات . وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق , فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء .
ولولا أن في التعبير ألفاظا وعبارات لم تعد مألوفة ولا واضحة للقارئ في هذا الزمان , لآثرت ترك السورة تؤدي بإيقاعها وصورها وظلالها وحقائقها ومشاهدها , مالا تؤديه أية ترجمة لها في لغة البشر ; وتصل بذاتها إلى أوتار القلوب فتهزها من الأعماق .
ولكن لا بد مما ليس منه بد . وقد بعدنا في زماننا هذا عن مألوف لغة القرآن !
الدرس الأول:1 - 14 من مشاهد يوم القيامة
إذا الشمس كورت , وإذا النجوم انكدرت , وإذا الجبال سيرت , وإذا العشار عطلت , وإذا الوحوش حشرت , وإذا البحار سجرت , وإذا النفوس زوجت , وإذا الموءودة سئلت:بأي ذنب قتلت ? وإذا الصحف نشرت , وإذا السماء كشطت , وإذا الجحيم سعرت , وإذا الجنة أزلفت . . علمت نفس ما أحضرت . .
هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود , والثورة الشاملة لكل موجود . الانقلاب الذي يشمل الأجرام السماوية والأرضية , والوحوش النافرة والأنعام الأليفة , ونفوس البشر , وأوضاع الأمور . حيث ينكشف كل مستور , ويعلم كل مجهول ; وتقف النففس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب . وكل شيء من حولها عاصف ; وكل شيء من حولها مقلوب !
وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده . الكون المنسق الجميل , الموزون الحركة , المضبوط النسبة , المتين الصنعة , المبني بأيد وإحكام . أن هذا الكون سينفرط عقد نظامه , وتتناثر أجزاؤه , وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها ; وينتهي إلى أجله المقدر , حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون ومن الحياة ومن الحقائق غير ما عهدت نهائيا من هذا الكون المعهود .
وهذا ما تستهدف السورة إقراره في المشاعر والقلوب كي تنفصل من هذه المظاهر الزائلة - مهما بدت لها ثابتة - وتتصل بالحقيقة الباقية . . حقيقة الله الذي لا يحول ولا يزول , حين يحول كل شيء من الحوادث ويزول . ولكي تنطلق من إسار المعهود المألوف في هذا الكون المشهود . إلى الحقيقة المطلقة التي لا تتقيد بزمان ولا مكان ولا رؤية ولا حس , ولا مظهر من المظاهر التي تقيدها في ظرف أو إطار محدود !
وهذا هو الشعور العام الذي ينسرب إلى النفس وهي تطالع مشاهد هذا الانقلاب المرهوب .
فأما حقيقة ما يجري لكل هذه الكائنات , فعلمها عند الله ; وهي حقيقة أكبر من أن ندركها الآن بمشاعرنا وتصوراتنا المقيدة بمألوف حسنا وتفكيرنا . . وأكبر ما نعهده من الانقلابات هو أن ترجف بنا الأرض في زلزال مدمر , أو يتفجر من باطنها بركان جائح , أو أن ينقض على الأرض شهاب صغير , أو صاعقة . . وأشد ما عرفته البشرية من طغيان الماء كان هو الطوفان . . كما أن أشد ما رصدته من الأحداث الكونية كان هو انفجارات جزئية في الشمس على بعد مئات الملايين من الأميال . .
وهذه كلها بالقياس إلى ذلك الانقلاب الشامل الهائل في يوم القيامة . . تسليات أطفال !!!
فإذا لم يكن بد أن نعرف شيئا عن حقيقة ما يجري للكائنات , فليس أمامنا إلا تقريبها في عبارات مما نألف في هذه الحياة !
إن تكوير الشمس قد يعني برودتها , وانطفاء شعلتها , وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء . كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف . واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة , والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة . . استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض , وتكور لا ألسنة له ولا امتداد !
قد يكون هذا , وقد يكون غيره . . أما كيف يقع والعوامل التي تسبب وقوعه فعلم ذلك عند الله .
وانكدار النجوم قد يكون معناه انتثارها من هذا النظام الذي يربطها , وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها . . والله أعلم ما هي النجوم التي يصيبها هذا الحادث . وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا . . مجموعتنا الشمسية مثلا . أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم . . أم هي النجوم جميعها والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله . فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها لا نعرف لها عددا ولا نهاية . فهناك نجوم سيصيبها الانكدار كما يقرر هذا الخبر الصادق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله . .
وتسيير الجبال قد يكون معناه نسفها وبسها وتذريتها في الهواء , كما جاء في سورة أخرى:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا). .(وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا). .(وسيرت الجبال فكانت سرابا). . فكلها تشير إلى حدث كهذا يصيب الجبال , فيذهب بثباتها ورسوخها وتماسكها واستقرارها , وقد يكون مبدأ ذلك الزلزال الذي يصيب الأرض , والذي يقول عنه القرآن:(إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها . .)وكلها أحداث تقع في ذلك اليوم الطويل . .
أما قوله سبحانه:(وإذا العشار عطلت). . فالعشار هي النوق الحبالى في شهرها العاشر . وهي أجود وأثمن ما يملكه العربي . وهي في حالتها هذه تكون أغلى ما تكون عنده , لأنها مرجوة الولد واللبن , قريبة النفع . ففي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال تهمل هذه العشار وتعطل فلا تصبح لها قيمة , ولا يهتم بشأنها أحد . . والعربي المخاطب ابتداء بهذه الآية لا يهمل هذه العشار ولا ينفض يده منها إلا في حالة يراها أشد ما يلم به !
(وإذا الوحوش حشرت). . فهذه الوحوش النافرة قد هالها الرعب والهول فحشرت وانزوت تتجمع من الهول وهي الشاردة في الشعاب ; ونسيت مخاوفها بعضها من بعض , كما نسيت فرائسها , ومضت هائمة على وجوهها , لا تأوي إلى جحورها أو بيوتها كما هي عادتها , ولا تنطلق وراء فرائسها كما هو شأنها . فالهول والرعب لا يدعان لهذه الوحوش بقية من طباعها وخصائصها ! فكيف بالناس في ذلك الهول العصيب ?!
وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه . وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها [ التي تحدثنا عنها في سورة النازعات ] وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض . . وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر:(وإذا البحار فجرت). . فتفجير عناصرها وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها . أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة , وهو أشد هولا . أو على أي نحو آخر .
وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار . فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ; فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر , فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول ; وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة !
وتزويج النفوس يحتمل أن يكون هو جمع الأرواح بأجسادها بعد إعادة إنشائها . ويحتمل أن يكون ضم كل جماعة من الأرواح المتجانسة في مجموعة , كما قال في موضع آخر:(وكنتم أزواجا ثلاثة)أي صنوفا ثلاثة هم المقربون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . أو في غير ذلك من التشكيلات المتجانسة !
وإذا الموءودة سئلت:بأي ذنب قتلت ? وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر . وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل هذه الشناعة على الجاهلية , التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها , ويرفع البشرية كلها .
فقال في موضع:(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به . أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ? ألا ساء ما يحكمون !). . وقال في موضع: وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [ أي البنات ] ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ? . . وقال في موضع ثالث: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم). .
وكان الوأد يتم في صورة قاسية . إذ كانت البنت تدفن حية ! وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق . فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها , ثم يقول لأمها:طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ! وقد حفر لها بئرا في الصحراء , فيبلغ بها البئر , فيقول لها:انظري فيها . ثم يدفعها دفعا ويهيل التراب عليها ! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة .
فإذا كان المولود بنتا رمت بها فيها وردمتها . وإن كان ابنا قامت به معها ! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي , فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله !
فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي , فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس . . كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه . ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد
فإن أعجبته تزوجها , لاعبرة برغبتها هي ولا إرادتها ! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها . أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك . . وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح غيره إلا من أراد . إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها . . وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها . . وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها , فيحبسها عن الزواج , رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها ! أو يزوجها من ابنه الصغير طمعا في مالها أو جمالها . .
فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال . حتى جاء الإسلام . يشنع بهذه العادات ويقبحها . وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته . ويجعلها موضوعا من موضوعات الحساب يوم القيامة . يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج , كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام . ويقول:إن الموءودة ستسأل عن وأدها . . فكيف بوائدها ?!
وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبدا ; لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها , وفي تكريم الإنسان:الذكر والأنثى ; وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى . فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام , لا من أي عامل من عوامل البيئة .
وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض , تحققت للمرأة الكرامة , فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها . لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها . إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله . وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى .
وحين تعد الدلائل على أن هذا الدين من عند الله , وأن الذي جاء به رسول أوحي إليه . . تعد هذه النقلة في مكانة المرأة إحدى هذه الدلائل التي لا تخطئ . حيث لم تكن توجد في البيئة أمارة واحدة ينتظر أن تنتهي بالمرأة إلى هذه الكرامة ; ولا دافع واحد من دوافع البيئة وأحوالها الاقتصادية بصفة خاصة لولا أن نزل النهج الإلهي ليصنع هذا ابتداء بدافع غير دوافع الأرض كلها , وغير دوافع البيئة الجاهلية بصفة خاصة . فأنشأ وضع المرأة الجديد إنشاء , يتعلق بقيمة سماوية محضة وبميزان سماوي محض كذلك !
(وإذا الصحف نشرت)صحف الأعمال . ونشرها يفيد كشفها ومعرفتها , فلا تعود خافية ولا غامضة . وهذه العلنية أشد على النفوس وأنكى . فكم من سوأة مستورة يخجل صاحبها ذاته من ذكراها , ويرجف ويذوب من كشفها ! ثم إذا هي جميعها في ذلك اليوم منشورة مشهودة !
إن هذا النشر والكشف لون من ألوان الهول في ذلك اليوم ; كما أنه سمة من سمات الانقلاب حيث يكشف المخبوء , ويظهر المستور , ويفتضح المكنون في الصدور ?
وهذا التكشف في خفايا الصدور يقابله في الكون مشهد مثله:(وإذا السماء كشطت). . وأول ما يتبادر إلى الذهن من كلمة السماء هو هذا الغطاء المرفوع فوق الرؤوس . وكشطها إزالتها . . فأما كيف يقع هذا وكيف يكون فلا سبيل إلى الجزم بشيء . ولكنا نتصور أن ينظر الإنسان فلا يرى هذه القبة فوقه نتيجة لأي سبب يغير هذه الأوضاع الكونية , التي توجد بها هذه الظاهرة . وهذا يكفي . .
ثم تجيء الخطوة الأخيرة في مشاهد ذلك اليوم الهائل المرهوب:
(وإذا الجحيم سعرت . وإذا الجنة أزلفت). .
حيث تتوقد الجحيم وتتسعر , ويزداد لهيبها ووهجها وحرارتها . . أما أين هي ? وكيف تتسعر وتتوقد ? وبأي شيء تتوقد ? فليس لدينا من ذلك إلا قوله تعالى: (وقودها الناس والحجارة). وذلك بعد إلقاء أهلها فيها . أما قبل ذلك فالله أعلم بها وبوقودها !
وحيث تقرب الجنة وتظهر لروادها الموعودين بها , وتبدو لهم سهولة مدخلها , ويسر ولوجها . فهي مزلفة مقربة مهيأة . واللفظ كأنما يزحلقها أو يزحلق الأقدام بيسر إليها !!
عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها , في كيان الكون , وفي أحوال الأحياء والأشياء . عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت , وما تزودت به لهذا اليوم , وما حملت معها للعرض , وما أحضرت للحساب:
(علمت نفس ما أحضرت). .
كل نفس تعلم , في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها . . تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها . . تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئا مما أحضرت , ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه . . تعلم وقد انفصلت عن كل ما هو مألوف لها , معهود في حياتها أو تصورها . وقد انقطعت عن عالمها وانقطع عنها عالمها . وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء , ولم يبقى إلا وجه الله الكريم , الذي لا يتحول ولا يتبدل . . فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم , فتجده - سبحانه - عندما يتحول الكون كله ويتبدل !
وبهذا الإيقاع ينتهي المقطع الأول وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب .
الدرس الثاني:15 - 18 القسم ببعض المظاهر الكونية
ثم يجيء المقطع الثاني في السورة يبدأ بالتلويح بالقسم بمشاهد كونية جميلة , تختار لها تعبيرات أنيقة . . القسم على طبيعة الوحي , وصفة الرسول الذي يحمله , والرسول الذي يتلقاه , وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله:
فلا أقسم بالخنس , الجوار الكنس , والليل إذا عسعس , والصبح إذا تنفس . إنه لقول رسول كريم , ذي قوة عند ذي العرش مكين , مطاع ثم أمين . وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين , وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين . .
والخنس الجوار الكنس . . هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي . والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء . وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى . فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب , وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها . في اختفائها وفي ظهورها . في تواريها وفي سفورها . في جريها وفي عودتها . يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه .
(والليل إذا عسعس). . أي إذا أظلم . ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك . فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين:عس . عس . وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل , وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى !
وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع .
ومثله:(والصبح إذا تنفس). . بل هو أظهر حيوية , وأشد إيحاء . والصبح حي يتنفس . أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي . وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح . ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس ! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح .
وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى:(فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس , والليل إذا عسعس , والصبح إذا تنفس). . ثروة شعورية وتعبيرية . فوق ما يشير إليه من حقائق كونية . ثروة جميلة بديعة رشيقة ; تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر , وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر .
الدرس الثالث:19 - 21 من صفات جبريل عليه السلام
يلوح بهذه المشاعر الكونية التي يخلع عليها الحياة ; ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال التعبير الحي الجميل عنها ; لتسكب في روح الإنسان أسرارها , وتشي لها بالقدرة التي وراءها , وتحدثها بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها . . ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها:
(إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين). .
إن هذا القرآن , وهذا الوصف لليوم الآخر . . لقول رسول كريم . . وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه . . فصار قوله باعتبار تبليغه .
ويذكر صفة هذا الرسول , الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه . .(كريم)عند ربه . فربه هو الذي يقول . . (ذي قوة). . مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله إلى قوة . (عند ذي العرش مكين). . في مقامه ومكانته . . وعند من ? عند ذي العرش العلي الأعلى . (مطاع ثم)هناك في الملأ الأعلى .(أمين). . على ما يحمل وما يبلغ . .
وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه . كما توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان , حتى ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة ليحمل الرسالة إليه , ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه . . وهي عناية تخجل هذا الكائن , الذي لا يساوي في ملك الله شيئا , لولا أن الله - سبحانه - يتفضل عليه فيكرمه هذه الكرامة !
الدرس الرابع:22 - 27 رد اتهامات الكفار للرسول وإثبات حقيقة الوحي
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه , فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو(صاحبكم). . عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب , وهو(صاحبكم)الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين:
(وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين). .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة , ويعرفون رجاحة عقله , وصدقه وأمانته وتثبته , قالوا عنه:إنه مجنون . وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب ! وتركوا التعليل الوحيد الصادق , وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع , وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة , التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله , والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون .
والذي رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية , بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه [ ص ] لمؤتمن على الغيب , لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه , فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين .(وما هو بقول شيطان رجيم)فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم . ويسألهم مستنكرا:(فأين تذهبون ?). . أين تذهبون في حكمكم وقولكم ? أو أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم !
إن هو إلا ذكر للعالمين ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم , وحقيقة نشأتهم , وحقيقة الكون من حولهم . .(للعالمين). . فهو دعوة عالمية من أول مرحلة . والدعوة في مكة محاصرة مطاردة . كما تشهد مثل هذه النصوص المكية . .
الدرس الخامس:28 القرآن هدى لمن يريد الإستقامة والهداية
وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسر لمن يريد . وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم , وقد منحهم الله هذا التيسير:
(لمن شاء منكم أن يستقيم). .
أن يستقيم على هدى الله , في الطريق إليه , بعد هذا البيان , الذي يكشف كل شبهة , وينفي كل ريبة , ويسقط كل عذر . ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم . فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه . فقد كان أمامه أن يستقيم .
والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد . وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ . وما ينحرف عن طريق الله - بعد ذلك - إلا من يريد أن ينحرف . في غير عذر ولا مبرر !
الدرس السادس:29 الهداية بيد الله يهبها لمن يطلبها
فإذا سجل عليهم إمكان الهدى , ويسر الاستقامة , عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم . حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه . .
(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين). .
وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى , التي يرجع إليها كل أمر . فإعطاؤهم حرية الاختيار , ويسر الاهتداء , إنما يرجع إلى تلك المشيئة . المحيطة بكل شيء كان أو يكون !
وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق , يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة:حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله . وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير . شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعةالمطلقة لما يؤمرون , والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون . فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان .
ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين , ليدركوا ما هو الحق لذاته . وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق , ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق !
تعريف بسورة التكوير
هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة:
الأولى حقيقة القيامة , وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل , يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار , والأرض والسماء , والأنعام والوحوش , كما يشمل بني الإنسان .
والثانية حقيقة الوحي , وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله , وصفة النبي الذي يتلقاه , ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه , ومع المشيئة الكبرى التى فطرتهم ونزلت لهم الوحي .
والإيقاع العام للسورة أشبه بحركة جائحة . تنطلق من عقالها . فتقلب كل شيء , وتنثر كل شيء ; وتهيجالساكن وتروع الآمن ; وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود ; وتهز النفس البشرية هزا عنيفا طويلا , يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه , وتتشبث به , فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار . ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار , الذي له وحده البقاء والدوام , وعنده وحده القرار والاطمئنان . .
ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن , لتلوذ بكنف الله , وتأوي إلى حماه , وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار . .
وفي السورة - مع هذا - ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة , سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه , أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع . وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة ! المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات . وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق , فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء .
ولولا أن في التعبير ألفاظا وعبارات لم تعد مألوفة ولا واضحة للقارئ في هذا الزمان , لآثرت ترك السورة تؤدي بإيقاعها وصورها وظلالها وحقائقها ومشاهدها , مالا تؤديه أية ترجمة لها في لغة البشر ; وتصل بذاتها إلى أوتار القلوب فتهزها من الأعماق .
ولكن لا بد مما ليس منه بد . وقد بعدنا في زماننا هذا عن مألوف لغة القرآن !
الدرس الأول:1 - 14 من مشاهد يوم القيامة
إذا الشمس كورت , وإذا النجوم انكدرت , وإذا الجبال سيرت , وإذا العشار عطلت , وإذا الوحوش حشرت , وإذا البحار سجرت , وإذا النفوس زوجت , وإذا الموءودة سئلت:بأي ذنب قتلت ? وإذا الصحف نشرت , وإذا السماء كشطت , وإذا الجحيم سعرت , وإذا الجنة أزلفت . . علمت نفس ما أحضرت . .
هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود , والثورة الشاملة لكل موجود . الانقلاب الذي يشمل الأجرام السماوية والأرضية , والوحوش النافرة والأنعام الأليفة , ونفوس البشر , وأوضاع الأمور . حيث ينكشف كل مستور , ويعلم كل مجهول ; وتقف النففس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب . وكل شيء من حولها عاصف ; وكل شيء من حولها مقلوب !
وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده . الكون المنسق الجميل , الموزون الحركة , المضبوط النسبة , المتين الصنعة , المبني بأيد وإحكام . أن هذا الكون سينفرط عقد نظامه , وتتناثر أجزاؤه , وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها ; وينتهي إلى أجله المقدر , حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون ومن الحياة ومن الحقائق غير ما عهدت نهائيا من هذا الكون المعهود .
وهذا ما تستهدف السورة إقراره في المشاعر والقلوب كي تنفصل من هذه المظاهر الزائلة - مهما بدت لها ثابتة - وتتصل بالحقيقة الباقية . . حقيقة الله الذي لا يحول ولا يزول , حين يحول كل شيء من الحوادث ويزول . ولكي تنطلق من إسار المعهود المألوف في هذا الكون المشهود . إلى الحقيقة المطلقة التي لا تتقيد بزمان ولا مكان ولا رؤية ولا حس , ولا مظهر من المظاهر التي تقيدها في ظرف أو إطار محدود !
وهذا هو الشعور العام الذي ينسرب إلى النفس وهي تطالع مشاهد هذا الانقلاب المرهوب .
فأما حقيقة ما يجري لكل هذه الكائنات , فعلمها عند الله ; وهي حقيقة أكبر من أن ندركها الآن بمشاعرنا وتصوراتنا المقيدة بمألوف حسنا وتفكيرنا . . وأكبر ما نعهده من الانقلابات هو أن ترجف بنا الأرض في زلزال مدمر , أو يتفجر من باطنها بركان جائح , أو أن ينقض على الأرض شهاب صغير , أو صاعقة . . وأشد ما عرفته البشرية من طغيان الماء كان هو الطوفان . . كما أن أشد ما رصدته من الأحداث الكونية كان هو انفجارات جزئية في الشمس على بعد مئات الملايين من الأميال . .
وهذه كلها بالقياس إلى ذلك الانقلاب الشامل الهائل في يوم القيامة . . تسليات أطفال !!!
فإذا لم يكن بد أن نعرف شيئا عن حقيقة ما يجري للكائنات , فليس أمامنا إلا تقريبها في عبارات مما نألف في هذه الحياة !
إن تكوير الشمس قد يعني برودتها , وانطفاء شعلتها , وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء . كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف . واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة , والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة . . استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض , وتكور لا ألسنة له ولا امتداد !
قد يكون هذا , وقد يكون غيره . . أما كيف يقع والعوامل التي تسبب وقوعه فعلم ذلك عند الله .
وانكدار النجوم قد يكون معناه انتثارها من هذا النظام الذي يربطها , وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها . . والله أعلم ما هي النجوم التي يصيبها هذا الحادث . وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا . . مجموعتنا الشمسية مثلا . أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم . . أم هي النجوم جميعها والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله . فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها لا نعرف لها عددا ولا نهاية . فهناك نجوم سيصيبها الانكدار كما يقرر هذا الخبر الصادق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله . .
وتسيير الجبال قد يكون معناه نسفها وبسها وتذريتها في الهواء , كما جاء في سورة أخرى:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا). .(وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا). .(وسيرت الجبال فكانت سرابا). . فكلها تشير إلى حدث كهذا يصيب الجبال , فيذهب بثباتها ورسوخها وتماسكها واستقرارها , وقد يكون مبدأ ذلك الزلزال الذي يصيب الأرض , والذي يقول عنه القرآن:(إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها . .)وكلها أحداث تقع في ذلك اليوم الطويل . .
أما قوله سبحانه:(وإذا العشار عطلت). . فالعشار هي النوق الحبالى في شهرها العاشر . وهي أجود وأثمن ما يملكه العربي . وهي في حالتها هذه تكون أغلى ما تكون عنده , لأنها مرجوة الولد واللبن , قريبة النفع . ففي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال تهمل هذه العشار وتعطل فلا تصبح لها قيمة , ولا يهتم بشأنها أحد . . والعربي المخاطب ابتداء بهذه الآية لا يهمل هذه العشار ولا ينفض يده منها إلا في حالة يراها أشد ما يلم به !
(وإذا الوحوش حشرت). . فهذه الوحوش النافرة قد هالها الرعب والهول فحشرت وانزوت تتجمع من الهول وهي الشاردة في الشعاب ; ونسيت مخاوفها بعضها من بعض , كما نسيت فرائسها , ومضت هائمة على وجوهها , لا تأوي إلى جحورها أو بيوتها كما هي عادتها , ولا تنطلق وراء فرائسها كما هو شأنها . فالهول والرعب لا يدعان لهذه الوحوش بقية من طباعها وخصائصها ! فكيف بالناس في ذلك الهول العصيب ?!
وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه . وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها [ التي تحدثنا عنها في سورة النازعات ] وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض . . وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر:(وإذا البحار فجرت). . فتفجير عناصرها وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها . أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة , وهو أشد هولا . أو على أي نحو آخر .
وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار . فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ; فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر , فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول ; وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة !
وتزويج النفوس يحتمل أن يكون هو جمع الأرواح بأجسادها بعد إعادة إنشائها . ويحتمل أن يكون ضم كل جماعة من الأرواح المتجانسة في مجموعة , كما قال في موضع آخر:(وكنتم أزواجا ثلاثة)أي صنوفا ثلاثة هم المقربون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . أو في غير ذلك من التشكيلات المتجانسة !
وإذا الموءودة سئلت:بأي ذنب قتلت ? وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر . وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل هذه الشناعة على الجاهلية , التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها , ويرفع البشرية كلها .
فقال في موضع:(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به . أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ? ألا ساء ما يحكمون !). . وقال في موضع: وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [ أي البنات ] ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ? . . وقال في موضع ثالث: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم). .
وكان الوأد يتم في صورة قاسية . إذ كانت البنت تدفن حية ! وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق . فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها , ثم يقول لأمها:طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ! وقد حفر لها بئرا في الصحراء , فيبلغ بها البئر , فيقول لها:انظري فيها . ثم يدفعها دفعا ويهيل التراب عليها ! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة .
فإذا كان المولود بنتا رمت بها فيها وردمتها . وإن كان ابنا قامت به معها ! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي , فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله !
فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي , فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس . . كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه . ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد
فإن أعجبته تزوجها , لاعبرة برغبتها هي ولا إرادتها ! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها . أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك . . وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح غيره إلا من أراد . إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها . . وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها . . وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها , فيحبسها عن الزواج , رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها ! أو يزوجها من ابنه الصغير طمعا في مالها أو جمالها . .
فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال . حتى جاء الإسلام . يشنع بهذه العادات ويقبحها . وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته . ويجعلها موضوعا من موضوعات الحساب يوم القيامة . يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج , كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام . ويقول:إن الموءودة ستسأل عن وأدها . . فكيف بوائدها ?!
وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبدا ; لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها , وفي تكريم الإنسان:الذكر والأنثى ; وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى . فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام , لا من أي عامل من عوامل البيئة .
وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض , تحققت للمرأة الكرامة , فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها . لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها . إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله . وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى .
وحين تعد الدلائل على أن هذا الدين من عند الله , وأن الذي جاء به رسول أوحي إليه . . تعد هذه النقلة في مكانة المرأة إحدى هذه الدلائل التي لا تخطئ . حيث لم تكن توجد في البيئة أمارة واحدة ينتظر أن تنتهي بالمرأة إلى هذه الكرامة ; ولا دافع واحد من دوافع البيئة وأحوالها الاقتصادية بصفة خاصة لولا أن نزل النهج الإلهي ليصنع هذا ابتداء بدافع غير دوافع الأرض كلها , وغير دوافع البيئة الجاهلية بصفة خاصة . فأنشأ وضع المرأة الجديد إنشاء , يتعلق بقيمة سماوية محضة وبميزان سماوي محض كذلك !
(وإذا الصحف نشرت)صحف الأعمال . ونشرها يفيد كشفها ومعرفتها , فلا تعود خافية ولا غامضة . وهذه العلنية أشد على النفوس وأنكى . فكم من سوأة مستورة يخجل صاحبها ذاته من ذكراها , ويرجف ويذوب من كشفها ! ثم إذا هي جميعها في ذلك اليوم منشورة مشهودة !
إن هذا النشر والكشف لون من ألوان الهول في ذلك اليوم ; كما أنه سمة من سمات الانقلاب حيث يكشف المخبوء , ويظهر المستور , ويفتضح المكنون في الصدور ?
وهذا التكشف في خفايا الصدور يقابله في الكون مشهد مثله:(وإذا السماء كشطت). . وأول ما يتبادر إلى الذهن من كلمة السماء هو هذا الغطاء المرفوع فوق الرؤوس . وكشطها إزالتها . . فأما كيف يقع هذا وكيف يكون فلا سبيل إلى الجزم بشيء . ولكنا نتصور أن ينظر الإنسان فلا يرى هذه القبة فوقه نتيجة لأي سبب يغير هذه الأوضاع الكونية , التي توجد بها هذه الظاهرة . وهذا يكفي . .
ثم تجيء الخطوة الأخيرة في مشاهد ذلك اليوم الهائل المرهوب:
(وإذا الجحيم سعرت . وإذا الجنة أزلفت). .
حيث تتوقد الجحيم وتتسعر , ويزداد لهيبها ووهجها وحرارتها . . أما أين هي ? وكيف تتسعر وتتوقد ? وبأي شيء تتوقد ? فليس لدينا من ذلك إلا قوله تعالى: (وقودها الناس والحجارة). وذلك بعد إلقاء أهلها فيها . أما قبل ذلك فالله أعلم بها وبوقودها !
وحيث تقرب الجنة وتظهر لروادها الموعودين بها , وتبدو لهم سهولة مدخلها , ويسر ولوجها . فهي مزلفة مقربة مهيأة . واللفظ كأنما يزحلقها أو يزحلق الأقدام بيسر إليها !!
عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها , في كيان الكون , وفي أحوال الأحياء والأشياء . عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت , وما تزودت به لهذا اليوم , وما حملت معها للعرض , وما أحضرت للحساب:
(علمت نفس ما أحضرت). .
كل نفس تعلم , في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها . . تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها . . تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئا مما أحضرت , ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه . . تعلم وقد انفصلت عن كل ما هو مألوف لها , معهود في حياتها أو تصورها . وقد انقطعت عن عالمها وانقطع عنها عالمها . وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء , ولم يبقى إلا وجه الله الكريم , الذي لا يتحول ولا يتبدل . . فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم , فتجده - سبحانه - عندما يتحول الكون كله ويتبدل !
وبهذا الإيقاع ينتهي المقطع الأول وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب .
الدرس الثاني:15 - 18 القسم ببعض المظاهر الكونية
ثم يجيء المقطع الثاني في السورة يبدأ بالتلويح بالقسم بمشاهد كونية جميلة , تختار لها تعبيرات أنيقة . . القسم على طبيعة الوحي , وصفة الرسول الذي يحمله , والرسول الذي يتلقاه , وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله:
فلا أقسم بالخنس , الجوار الكنس , والليل إذا عسعس , والصبح إذا تنفس . إنه لقول رسول كريم , ذي قوة عند ذي العرش مكين , مطاع ثم أمين . وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين , وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين . .
والخنس الجوار الكنس . . هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي . والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء . وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى . فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب , وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها . في اختفائها وفي ظهورها . في تواريها وفي سفورها . في جريها وفي عودتها . يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه .
(والليل إذا عسعس). . أي إذا أظلم . ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك . فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين:عس . عس . وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل , وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى !
وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع .
ومثله:(والصبح إذا تنفس). . بل هو أظهر حيوية , وأشد إيحاء . والصبح حي يتنفس . أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي . وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح . ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس ! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح .
وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى:(فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس , والليل إذا عسعس , والصبح إذا تنفس). . ثروة شعورية وتعبيرية . فوق ما يشير إليه من حقائق كونية . ثروة جميلة بديعة رشيقة ; تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر , وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر .
الدرس الثالث:19 - 21 من صفات جبريل عليه السلام
يلوح بهذه المشاعر الكونية التي يخلع عليها الحياة ; ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال التعبير الحي الجميل عنها ; لتسكب في روح الإنسان أسرارها , وتشي لها بالقدرة التي وراءها , وتحدثها بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها . . ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها:
(إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين). .
إن هذا القرآن , وهذا الوصف لليوم الآخر . . لقول رسول كريم . . وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه . . فصار قوله باعتبار تبليغه .
ويذكر صفة هذا الرسول , الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه . .(كريم)عند ربه . فربه هو الذي يقول . . (ذي قوة). . مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله إلى قوة . (عند ذي العرش مكين). . في مقامه ومكانته . . وعند من ? عند ذي العرش العلي الأعلى . (مطاع ثم)هناك في الملأ الأعلى .(أمين). . على ما يحمل وما يبلغ . .
وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه . كما توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان , حتى ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة ليحمل الرسالة إليه , ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه . . وهي عناية تخجل هذا الكائن , الذي لا يساوي في ملك الله شيئا , لولا أن الله - سبحانه - يتفضل عليه فيكرمه هذه الكرامة !
الدرس الرابع:22 - 27 رد اتهامات الكفار للرسول وإثبات حقيقة الوحي
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه , فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو(صاحبكم). . عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب , وهو(صاحبكم)الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين:
(وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين). .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة , ويعرفون رجاحة عقله , وصدقه وأمانته وتثبته , قالوا عنه:إنه مجنون . وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب ! وتركوا التعليل الوحيد الصادق , وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع , وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة , التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله , والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون .
والذي رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية , بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه [ ص ] لمؤتمن على الغيب , لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه , فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين .(وما هو بقول شيطان رجيم)فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم . ويسألهم مستنكرا:(فأين تذهبون ?). . أين تذهبون في حكمكم وقولكم ? أو أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم !
إن هو إلا ذكر للعالمين ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم , وحقيقة نشأتهم , وحقيقة الكون من حولهم . .(للعالمين). . فهو دعوة عالمية من أول مرحلة . والدعوة في مكة محاصرة مطاردة . كما تشهد مثل هذه النصوص المكية . .
الدرس الخامس:28 القرآن هدى لمن يريد الإستقامة والهداية
وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسر لمن يريد . وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم , وقد منحهم الله هذا التيسير:
(لمن شاء منكم أن يستقيم). .
أن يستقيم على هدى الله , في الطريق إليه , بعد هذا البيان , الذي يكشف كل شبهة , وينفي كل ريبة , ويسقط كل عذر . ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم . فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه . فقد كان أمامه أن يستقيم .
والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد . وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ . وما ينحرف عن طريق الله - بعد ذلك - إلا من يريد أن ينحرف . في غير عذر ولا مبرر !
الدرس السادس:29 الهداية بيد الله يهبها لمن يطلبها
فإذا سجل عليهم إمكان الهدى , ويسر الاستقامة , عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم . حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه . .
(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين). .
وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى , التي يرجع إليها كل أمر . فإعطاؤهم حرية الاختيار , ويسر الاهتداء , إنما يرجع إلى تلك المشيئة . المحيطة بكل شيء كان أو يكون !
وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق , يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة:حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله . وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير . شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعةالمطلقة لما يؤمرون , والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون . فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان .
ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين , ليدركوا ما هو الحق لذاته . وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق , ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق